هل يقوض مشروع تجديد مقر «الفيدرالي» مسيرة جيروم باول؟

تأتي زيارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وعدد من مسؤولي إدارته لمقر مجلس الاحتياطي الفيدرالي كخطوة مفاجئة تصعد التوتر بين البنك المركزي والإدارة الأمريكية، خاصة في ظل ما أثير حول مشروع تجديد مقر المجلس بتكلفة تقدر بـ2.5 مليار دولار.

وأصبح المشروع محوراً رئيسياً في مساعي البيت الأبيض، لتقويض مكانة رئيس «الفيدرالي»، جيروم باول. وقد شبه راسل فوت، مدير مكتب الإدارة والميزانية، مشروع التجديد ببناء «قصر فرساي»، واصفاً تجاوز التكاليف بأنه «مبالغ فيه»، ومتهماً باول بسوء إدارة المشروع بشكل «جسيم».

ونقلت صحيفة فاينانشال تايمز عن أحد مسؤولي الإدارة قوله: «هناك فضول حقيقي من جانب المدير لمعرفة أين تذهب كل هذه الأموال فعلياً، إذ يبدو تخصيص 2.5 مليار دولار لتجديد مبنى أمراً مثيراً للسخرية»، لكن لماذا كل هذا التدقيق من جانب إدارة ترامب في مشروع «الفيدرالي»؟

يقول راسل فوت، الحليف المقرب من الرئيس ترامب، إن مشروع تجديد مبنى «مارينر إس. إكليز» والمبنى المجاور له في شارع كونستيتيوشن أفينيو، الذي يعود تاريخه إلى عام 1951، يُجسد في نظره ونظر آخرين داخل الإدارة الأمريكية غياباً للرقابة على أداء البنك المركزي.

وكان فوت صرح في وقت سابق أن المبنى الثاني التابع للاحتياطي الفيدرالي، وهو مبنى ويليام ماكشيسني مارتن جونيور، الذي يعتبر معلماً معمارياً يعكس تفاؤل عصر الطائرات النفاثة، ويقع قبالة مبنى إكلز، لا يقل فخامة عن «قصر».

وقد أعلن وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، عن دعمه الكامل للتحقيق، مطالباً بمراجعة القرار، الذي اتخذ لتنفيذ المشروع، وداعياً في الوقت ذاته إلى فتح تحقيق شامل بشأن «مؤسسة الاحتياطي الفيدرالي بأكملها».

ويعزز تحقيق إدارة ترامب في مشروع «الفيدرالي» التكهنات بشأن عزل باول، وقد أثار التحقيق الجاري بشأن مشروع تجديد مقر الاحتياطي الفيدرالي، الذي تجاوزت تكلفته الميزانية الأصلية بأكثر من 700 مليون دولار، تكهنات حول إمكانية استخدامه ذريعة من قبل الرئيس، دونالد ترامب، لعزل رئيس الفيدرالي، جيروم باول، قبل انتهاء ولايته في مايو المقبل، وذلك تحت مسمى «وجود سبب»، وهو توصيف يُفهم عادة على أنه يشير إلى سوء سلوك وظيفي جسيم.

من جانبهم، يشكك خبراء القانون الدستوري في أن تجاوز التكاليف يمكن أن يشكل أساساً قانونياً كافياً لعزله من منصبه، بل وصرح وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، قائلاً: «لا يوجد ما يدفعني للاعتقاد بأن على باول أن يتنحى حالياً».

وأضاف في مقابلة مع قناة «فوكس بيزنس»: «إذا كان يرغب في البقاء حتى نهاية ولايته فأعتقد أن عليه أن يفعل، ولكن إذا أراد المغادرة مبكراً فأعتقد أن عليه أن يفعل ذلك أيضاً»، لكن ما هي الدوافع الفعلية للهجوم على باول؟

منذ عودته إلى البيت الأبيض شن ترامب هجوماً متكرراً على باول، بسبب رفضه خفض معدلات الفائدة، وهو قرار يرى الرئيس الأمريكي أنه كبد البلاد مئات مليارات الدولارات من تكاليف التمويل، وأعاق النمو الاقتصادي، غير أن رأياً قانونياً صدر عن المحكمة العليا مطلع هذا العام أشار إلى أن الرئيس سيواجه صعوبة كبيرة في عزل رئيس الاحتياطي الفيدرالي على خلفية خلافات تتعلق بالسياسات النقدية.

وفي الأسابيع الأخيرة حولت إدارة ترامب هجومها إلى محور جديد، يركز على اتهام باول بسوء إدارة مشروع التجديد «بشكل جسيم»، وبتضليل الكونغرس أو الفشل في إبلاغ «اللجنة الوطنية لتخطيط العاصمة» بخطط خفض التكاليف.

ويقوم الاحتياطي الفيدرالي بتمويل عملياته بشكل أساسي، من خلال العائدات الناتجة عن الأوراق المالية، التي يحتفظ بها ضمن سياساته النقدية، بالإضافة إلى الرسوم التي يفرضها على البنوك، وليس عبر اعتمادات يقرها الكونغرس. وبناء عليه ترى المؤسسة أنها لم تكن ملزمة بإبلاغ لجنة تخطيط العاصمة بهذه التعديلات، لكن أحد المسؤولين في الإدارة قال لصحيفة «فاينانشال تايمز»، إن البنك كان عليه أن يتشاور مع اللجنة بشأن تلك التغييرات.

وفي هذا السياق أرسل باول رسالة إلى كل من السيناتور، تيم سكوت، والسيناتور، إليزابيث وارن، العضوين في لجنة الشؤون المصرفية في مجلس الشيوخ، لإبلاغهما بأن المفتش العام للاحتياطي الفيدرالي سيباشر تحقيقاً رسمياً في تجاوزات التكاليف، لكن هل بلغت تكاليف التجديد مستويات مبالغاً فيها فعلاً؟

تشير المقارنات إلى أن عدداً من مشاريع المباني الفيدرالية الحديثة قد نفذ بتكاليف أقل بكثير من متوسط تكلفة التجديد الحالية لمقر الاحتياطي الفيدرالي، والتي تبلغ نحو 2000 دولار للقدم المربعة.

فعلى سبيل المثال كلف بناء «متحف سميثسونيان للهنود الأمريكيين»، الواقع في الطرف الآخر من «ناشونال مول»، حوالي 800 دولار للقدم المربعة عند افتتاحه عام 2004، أي ما يعادل نحو 1400 دولار بأسعار عام 2025.

وقال أندرو ليفين، الخبير الاقتصادي السابق في الاحتياطي الفيدرالي والأستاذ حالياً في كلية دارتموث، إن قرار إضافة مساحة جديدة لإنشاء موقف سيارات للموظفين ونفق تحت الأرض، يربط بين المبنيين قد زاد من تكلفة المشروع دون داعٍ.

وأضاف: «كان بإمكان الفيدرالي استئجار 500 موقف للسيارات من مواقف السيارات التجارية في المنطقة مقابل نحو 30 مليون دولار»، مضيفاً أن «موقف السيارات تحت الأرض الذي يشيد حالياً قد تصل تكلفته إلى عشرة أضعاف هذا الرقم».

لكن يمكن الرد بأن مواقف السيارات التجارية المحيطة بالموقع قد لا تكون قادرة على استيعاب عدد الموظفين العاملين في الاحتياطي الفيدرالي، والمرآب الأقرب لمقر البنك المركزي لا يتسع سوى لـ130 سيارة فقط، فيما لا تتجاوز الطاقة الاستيعابية لمجمل المواقف ضمن عدة مربعات سكنية مجاورة نحو 540 موقفاً،

كما أن توفير مواقف سيارات داخلية للموظفين ليس بالأمر غير المألوف في المباني الفيدرالية، فعلى سبيل المثال يضم «مبنى روبرت سي ويفر» الفيدرالي، مقر وزارة الإسكان والتنمية الحضرية، ثلاثة طوابق من مواقف السيارات تحت الأرض، بينما يحتوي مبنى «رونالد ريغان» على مرآب يتسع لنحو 2000 سيارة.

تشير السجلات الرسمية إلى أن تجاوز الميزانيات في مشاريع المباني الفيدرالية ليس بالأمر غير المألوف، فقد خلص تقرير صادر عن «مكتب المحاسبة الحكومي» الأمريكي في عام 2018 إلى أن أكثر من ثلثي مشاريع البناء الفيدرالية الكبرى غير العسكرية، التي اكتملت بين عامَي 2014 و2018، قد تجاوزت ميزانياتها الأصلية.

وقد بلغت تكلفة إنشاء المقر الأصلي لمكتب التحقيقات الفيدرالي في شارع بنسلفانيا، عند اكتماله في عام 1974، أكثر من ضعف التقديرات الأولية، أما مبنى «رونالد ريغان» ومركز التجارة الدولية في شارع 14، فقد بدأ بميزانية تقديرية قدرها 362 مليون دولار، وانتهى بتكلفة تجاوزت 800 مليون دولار.

وبحسب تقرير صدر عام 2021 عن «إدارة الخدمات العامة» الأمريكية، وهي الهيئة المسؤولة عن إدارة ممتلكات الحكومة الفيدرالية، فإن التكاليف النهائية لمشاريع البناء الفيدرالية جاءت في المتوسط، أعلى بنسبة تقل عن 10 % من التقديرات المبدئية.

لم يتجاوز تكلفة مشروع الاحتياطي الفيدرالي في عام 2021 سوى مشروع واحد، هو مبنى «فيديريكو ديجيتاو» الفيدرالي في سان خوان، بورتو ريكو، غير أن «الفيدرالي» يواجه تحديات تتعلق بتحديث مبنى أثري افتتح لأول مرة في عام 1937، ولم يخضع منذ ذلك الحين لأي عملية تحديث شاملة.

وفي رسالة وجهها إلى راسل فوت أشار جيروم باول إلى أن كلاً من مبنى «إكلز» و«كونستيتيوشن أفينيو 1951» لم يخضع لأي «تجديد شامل» منذ إنشائه، كما أوضح أن المبنى الثاني ظل شاغراً قبل نقله إلى ملكية الاحتياطي الفيدرالي في عام 2018، وفقاً لبيان صحفي صادر عن إدارة الخدمات العامة.

وحتى الآن لم يقدم الاحتياطي الفيدرالي قائمة تفصيلية بتجاوزات التكاليف، غير أن باول أشار في رسالته إلى أن المشروع يتضمن «إصلاحات إنشائية كبيرة»، وإزالة لمواد ضارة مثل الأسبستوس والرصاص، إلى جانب تحديث كامل للأنظمة الكهربائية والسباكة والتدفئة، وهي كلها عوامل أسهمت في ارتفاع التكلفة.

وقد أنفقت بنوك مركزية أخرى حول العالم مليارات الدولارات على مقارها، فقد كتلف بناء مقر البنك المركزي الأوروبي نحو 1.2 مليار يورو، واكتمل المشروع بعد ثلاث سنوات من الموعد المحدد، متجاوزاً الميزانية الأصلية البالغة 850 مليون يورو بزيادة 350 مليوناً.

وبحلول عام 2014 عند الانتهاء من المشروع، الذي استغرق 12 عاماً، لم يكن المبنى يتسع لاستيعاب جميع موظفي البنك المركزي الأوروبي. وكما هي الحال مع «الفيدرالي»، برر البنك المركزي الأوروبي ارتفاع التكاليف بتضمن المشروع عملية الحفاظ على مبنى أثري، هو «قصر السوق الكبير» الذي يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وكان يستخدم سوقاً للخضراوات والفواكه في فرانكفورت.

ورغم أن مجموعة الأعمال الفنية لدى الاحتياطي الفيدرالي قد أثارت إعجاب فوت، بما فيها أعمال لآندي وارهول، ومطبوعات لجورجيا أوكيف، بالإضافة إلى معارض من إعداد الموظفين وصور لرؤساء سابقين، فإن بنوكاً مركزية أخرى تملك مقتنيات فنية مماثلة لا تقل قيمة أو أهمية.