تيج باريخ
بعد مرور ستة أشهر على تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية، ورغم تصاعد المخاوف حيال أجندته التي تسعى إلى رفع التعريفات الجمركية، منحت البيانات الاقتصادية الأخيرة شعوراً بالانتصار لأولئك الذين راهنوا على متانة الاقتصاد الأمريكي وقدرته على تجاوز هذه التحديات.
فقد تجاوز نمو الوظائف خلال يونيو التوقعات، فيما أظهرت بيانات التضخم ارتفاعاً طفيفاً فقط مرتبطاً بالرسوم الجمركية. كما أغلق مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» عند مستوى قياسي يوم الخميس.
وحتى الآن، سجّلت نتائج موسم أرباح الربع الثاني أداءً «أفضل من المتوقع» بالنسبة لأكبر الشركات الأمريكية. مع ذلك، فإنني أرى أن الاقتصاد الأمريكي أكثر هشاشة مما توحي به هذه العناوين المتفائلة، لأسباب عدة:
أولها، أنه على صعيد سوق العمل، ورغم أن التقديرات الأولية للوظائف الشهرية خارج القطاع الزراعي قد فاقت توقعات المحللين وأسهمت في إنعاش أسواق الأسهم، فإن الرقم الإجمالي للوظائف يحجب حقيقة مقلقة. إذ إنه من بين 671 ألف وظيفة أضافها الاقتصاد الأمريكي منذ فبراير، نشأت الغالبية الساحقة – أي ثلثي هذا الرقم تحديداً - في قطاعات تقليدية محدودة النمو والإنتاجية كالصحة والتعليم والقطاع الحكومي.
وفي يونيو، يلاحظ أن «مؤشر الانتشار» - الذي يقيس مدى انتشار التوظيف عبر مختلف القطاعات ويصدره مكتب إحصاءات العمل الأمريكي- انخفض إلى ما دون 50 نقطة، وهو ما يشير إلى أن القطاعات التي تتخلص من العمالة باتت تفوق تلك التي توظف، في ظاهرة نادراً ما نشاهدها خارج فترات الركود الاقتصادي.
وتدق دراسات بيتر بيريزين، كبير استراتيجيي الأبحاث العالمية في مؤسسة «بي سي إيه ريسيرش»، ناقوس الخطر محذرة من أن سوق العمل الأمريكي بات على بعد خطوة واحدة من نقطة حرجة قد يؤدي عندها أي تراجع إضافي في الطلب إلى قفزة كبيرة في معدلات البطالة.
بل وتحوم شكوك جدية حول مصداقية بيانات التوظيف الأمريكية نفسها، لا سيما مع تراجع معدلات المشاركة في الاستطلاعات، حيث كشفت التحليلات أن تقديرات الوظائف الشهرية غير الزراعية تم تضخيمها بمتوسط 75 ألف وظيفة خلال 2024.
والواقع أن سلسلة أرقام التوظيف «المتفائلة» لهذا العام خضعت جميعها للتخفيض في المراجعات اللاحقة - وهي تعديلات لا تحظى عادة باهتمام كافٍ من المستثمرين.
ثانياً، فيما يخص سوق الإسكان، يقول مارك زاندي، كبير الاقتصاديين لدى «موديز أناليتيكس»: «يُعد القطاع العقاري الأكثر تأثراً بأسعار الفائدة، ولطالما قاد الاقتصاد تاريخياً نحو الركود. وصحيح أن هذا لم يحدث حتى الآن، لكن مع استمرار الفائدة عند مستوياتها المرتفعة، قد نشهد قريباً تحولاً في المشهد».
ورغم أن القروض العقارية لمدة 30 عاماً ذات الفائدة الثابتة ظلت النمط السائد في الولايات المتحدة، مع انحسار حاد في حصة الرهون العقارية ذات المعدلات المتغيرة منذ أواخر العقد الأول من الألفية، فإن ذلك يعني أن تأثيرات ارتفاع الفائدة قد تستغرق وقتاً أطول حتى تظهر على الاقتصاد الفعلي والبيانات.
لكن تلك التأثيرات بدأت بالظهور بالفعل، حيث بات مشترو المنازل لأول مرة يخصصون نسبة أكبر من دخولهم المتوسطة لسداد أقساط الرهن العقاري تفوق ما كانت عليه خلال ذروة فقاعة الإسكان في 2006، بينما قفزت نسبة قروض الرهن العقاري بمعدلات تتجاوز 6% بشكل حاد في فترة ما بعد الجائحة. كما ارتفع مخزون المنازل الجديدة غير المباعة ليسجل أعلى مستوى له منذ منتصف 2009.
ثالثاً، على صعيد الاستهلاك، الذي كان المحرك الرئيسي لطفرة النمو الأمريكي في أعقاب الجائحة، يشهد الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي الشهري تراجعاً مستمراً منذ ديسمبر 2024. وكانت الأسر ذات الدخل المنخفض أول المتضررين، بدايةً من ارتفاع أسعار الفائدة، والآن من موجة غلاء الأسعار المرتبطة بالتعريفات الجمركية وتفاقم حالة عدم اليقين الاقتصادي.
وظلت عجلة الإنفاق الإجمالي تدور حتى الآن بفضل دعم الفئات الأكثر ثراءً، فحسب تقديرات مارك زاندي، تستأثر الطبقة الأعلى التي تشكل 20% من هرم الدخل (ممن يتخطى دخلهم السنوي 250 ألف دولار) بما يزيد على 60% من إجمالي النفقات الشخصية في الاقتصاد.
ويشهد هذا الأمر تحولاً جذرياً الآن، ما دعا مارك زاندي إلى التحذير: «ما تخفيه بيانات الإنفاق الاستهلاكي الراكدة مؤخراً هو تزايد الحذر لدى الأسر الميسورة.
ومع المضي قدماً، ستؤثر زيادات الأسعار الناجمة عن التعريفات الجمركية بشكل أكبر على ذوي الدخل المنخفض. لكن مع امتداد تباطؤ الاقتصاد ليطال الأثرياء أيضاً، قد ينهار الطلب الاستهلاكي بوتيرة متسارعة».
وتكشف بيانات مؤسسة «بانثيون ماكرو إيكونوميكس» عن أن الأسر عبر مختلف مستويات الدخل باتت على وشك استنفاد المدخرات الإضافية التي راكمتها خلال الجائحة (نتيجة للدعم الحكومي والإغلاقات)، وتلك الاحتياطيات النقدية هي التي غذّت موجة الازدهار الاستهلاكي الأخيرة.
ولا يُنتظر أن يقدم «المشروع الكبير والجميل» الذي تبناه ترامب دفعة إضافية تُذكر للمستهلكين، إذ تشير تقديرات نموذج ميزانية «بن وارتون» إلى أن هذا التشريع سيؤدي إلى خفض دخول الشريحتين الأدنى بعد احتساب الضرائب والتحويلات بحلول 2030.
وفي المقابل، ستحقق الأسر ذات الدخل المرتفع مكاسب، لكن معظمها سيكون غير مباشر من خلال زيادة أرباح الشركات، وهي أرباح يُرجّح أن يتم ادخارها بدلاً من إنفاقها.
رابعاً، وعلى صعيد سوق الأسهم، أصبح مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» منفصلاً بشكل متزايد عن المتغيرات الاقتصادية الحقيقية خلال العقد الماضي، مما يجعله مقياساً ذا فائدة أقل في تقييم حالة الاقتصاد الأمريكي.
وعلى النقيض من ذلك، فإن مؤشر «ستاندرد آند بورز 600» للشركات الأمريكية صغيرة الحجم التي تعتمد بشكل أكبر على الظروف الاقتصادية المحلية، قد سجّل تراجعاً منذ بدء الولاية الثانية لترامب، في حين واصل «ستاندرد آندبورز 500» ارتفاعه.
ويحظى قطاع التكنولوجيا والبرمجيات الأمريكي بحصانة نسبية من موجة التعريفات الجمركية المطبقة في الوقت الراهن على الأقل (رغم مساعي الإدارة لفرض رسوم قطاعية محددة). أما في باقي القطاعات، فقد أفاد أكثر من 40% من الشركات التي تستخدم السلع المستوردة – سواء في قطاع التصنيع أو الخدمات – بتراجع صافي أرباحها حتى الآن، وذلك وفقاً لمسح حديث أجراه الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.
أخيراً، ثمة أسباب أكثر واقعية للمخاوف المتزايدة بشأن خطط السياسة الاقتصادية لترامب والصمود الظاهري للاقتصاد الأمريكي. فأجندة التعريفات الجمركية لدونالد ترامب لم تكتمل بعد. ووفقاً لبيانات مختبر ميزانية جامعة ييل، يبلغ متوسط معدل التعريفة الفعلي في الولايات المتحدة حالياً 16.6%، ومن المقرر أن يرتفع إلى 20.6% اعتباراً من الأول من أغسطس - وهو الموعد النهائي الذي حدده الرئيس الأمريكي لتطبيق الرسوم «المتبادلة».
ويفوق المعدل الحالي نظيره في العام الماضي بنحو سبعة أضعاف. لكن انتقال تأثير هذه الرسوم إلى الاقتصاد الفعلي لا يزال محدوداً، نظراً لأن الشركات ظلت تسحب في الفترة الماضية من مخزوناتها التي راكمتها قبل تطبيق الرسوم.
ومع ذلك، بدأت تظهر فجوة بين أسعار التجزئة للسلع الخاضعة للرسوم وتلك غير المتأثرة برسوم ترامب، بحسب بيانات «مختبر التسعير» في كلية هارفارد للأعمال.
وهذه الفجوة يصعب رصدها في تقارير التضخم الشهرية، التي تدمج طيفاً واسعاً من المنتجات المستوردة وغير المستوردة.
وحتى لو استمر ترامب في إرجاء تطبيق التعريفات الجمركية الجديدة، فإن المخزونات المتراكمة ستنضب حتماً، وسترتفع الأسعار تدريجياً بفعل الرسوم الحالية. (ويتوقع المحللون أن تنفد معظم المخزونات خلال أشهر الصيف).
بعبارة أخرى، فإن سلسلة النتائج القوية التي حققتها الشركات في الربع الثاني ليست مؤشراً دقيقاً على التأثير المحتمل للتعريفات الجمركية على قطاع الأعمال بمختلف أطيافه، أو المسار الذي قد يسلكه الاقتصاد في الأفق القريب.
كما أن القيمة السوقية المرتفعة لمؤشر «ستاندرد آند بورز 500» تعكس تكهنات مستقبلية أكثر من ارتباطها بالمؤشرات الاقتصادية الراهنة. ويشير بيتر بيريزين إلى أن التفاؤل المحيط بتقنيات الذكاء الاصطناعي يمثل «دفعة قوية» للمستثمرين.
فضلاً عن ذلك، وبعد تأجيل ترامب لتهديداته الجمركية أكثر من مرة وتخفيف حدّتها، يبدو أن المحللين باتوا يسعّرون على أساس «التاكو» - في إشارة إلى سردية أن «ترامب دائماً ما يتراجع».
بيد أن هذه النظرة التفاؤلية قد لا تصمد طويلاً. وكما أوضحتُ سابقاً، فإن الأسهم الأمريكية المبالغ في تقييمها تُواجه خطر التعرض لتصحيح مؤلم.
وستؤدي أجواء عدم اليقين التي سادت الأشهر الأخيرة إلى تقليص النشاط التجاري المستقبلي، حتى مع تخفيف خطط الرئيس للتعريفات الجمركية مرة أخرى. وعلى سبيل المثال، فقد دخل مؤشر «بي سي إيه ريسيرش» لنوايا الاستثمار التجاري في الولايات المتحدة منطقة الركود بالفعل. كما تراجعت أيضاً خطط التوظيف.
ومن ثم، فإن ما تخفيه العناوين الرئيسية هو أن الاقتصاد الأمريكي بات أشبه بضفدع في الماء المغلي. فأسواق العمل والإسكان والتجزئة تشهد تباطؤاً واضحاً، وتقترب من منعطف حاسم، بينما تعمل نشوة سوق الأسهم وعمالقة الشركات الأمريكية على حجب مظاهر الضعف الهيكلي الكامن.
ولن تقدم البيئة السياسية دعماً يُذكر في مواجهة هذه التحديات. كما أن مشروع القانون المالي لترامب الذي تم إقراره مؤخراً لا يُتوقع أن يوفر دفعة كبيرة للاقتصاد.
وما لم يتخذ الرئيس الأمريكي خطوات حاسمة للتراجع عن أجندته الحمائية في القريب العاجل، سيصعب كثيراً إيجاد ما يمنع هذا البناء الهش من الانهيار.