طفرة العقارات في ميلانو تهتز بعنف بسبب فضيحة فساد

قبل عقدين من الزمن، كانت الضاحية الكئيبة الواقعة شمال شرق وسط مدينة ميلانو، والتي اشتهرت يوماً بساحات السكك الحديدية ومصانع «بيريللي» لإطارات السيارات وشركة «بريدا» للصلب، منطقة مهجورة تنتشر في ربوعها الجريمة، إلى حدّ أن سكان المدينة لم يعودوا يفكرون في زيارتها قط.

أما اليوم، فقد تحوّلت إلى أحد أكثر أحياء المدينة تميزاً، وملاذاً للمصرفيين العالميين والمليارديرات. ويُعد برج «يونيكريديت» المقوّس، من أبرز معالمها، وهو من تصميم المعماري الراحل سيزار بيلي، المعروف بتشييده لأبراج «بتروناس» في كوالالمبور.

وعلى مقربة منه، ترتفع ناطحتا السحاب «بوسكو فيرتيكالي»، حيث تُباع الشقق السكنية بأسعار تصل إلى 25 مليون يورو، لمديري صناديق الأسهم الخاصة، ولاعبي كرة القدم، والمستثمرين القادمين من الشرق الأوسط.

يعود الفضل في هذا التحوّل الفاخر لحي بورتا نوفا إلى رجل واحد: مانفريدي كاتيلا، الذي تولّى قيادة الفرع الإيطالي لشركة «هاينس» الأمريكية لإدارة الأصول العقارية، ثم استحوذ في عام 2015 على هذا الفرع من خلال شركة «كويما» العقارية التابعة لعائلته.

وفي كلمة ألقاها خلال عام 2021، أشار كاتيلا إلى كيف كانت ميلانو في أوائل الألفية الجديدة «مدينة أنهكتها أزمة أخلاقية واقتصادية شديدة». واليوم: «باتت ميلانو تخاطب العالم».

لكن مكتب الادعاء العام في ميلانو ألقى مؤخراً ظلالاً من الشك على حلم كاتيلا، مطالباً بوضعه قيد الإقامة الجبرية بجانب خمسة آخرين، بما في ذلك عضو بالمجلس المحلي في المدينة، يُشتبه في مشاركتهم في إعادة إعمار المدينة.

ويخضع 15 شخصاً آخرون، بما في ذلك جيوزيبي سالا، عمدة المدينة، للتحقيق، ضمن تحقيق أوسع نطاقاً حول التوسّع العقاري السريع الذي شهدته ميلانو. ومن المُفترض بالرئيس التنفيذي لشركة «كويما» أن يمثل للتحقيق أمام قاض، والذي إما سيؤيّد أو سيرفض مطالبة مكتب المدعي العام باعتقاله.

ومع ذلك، وبحسب مستند يتكون من 420 صفحة حصلت عليه صحيفة «فاينانشال تايمز»، يزعم مكتب الادعاء العام أن الرئيس التنفيذي لشركة «كويما» قدّم رشوة لمسؤولين في القطاع العام للحصول على تصاريح بناء مُستعجلة تتجاهل القواعد الحاكمة لارتفاع البنايات وتأثيرها على المشهد الحضري للمدينة.

وأفاد المستند بأن التحقيق «كشف عن نظام يتمثّل الغرض منه في تسهيل إصدار تصاريح بناء غير قانونية لتنفيذ صفقات مضاربية عالية في القطاع العقاري».

وأسفر التحقيق واسع النطاق الذي استغرق أعواماً، وتضمّن التنصّت على مكالمات هاتفية ومصادرة للهواتف، عن تنفيذ الشرطة 24 عملية مداهمة في ربوع المدينة يوم الأربعاء الماضي.

ويهدد هذا التحقيق بالإطاحة بمجلس المدينة الذي يميل إلى يسار الوسط والذي ظل يحكم المدينة المزدهرة لما يقارب العِقد، وذلك قبل انتخابات عمدة المدينة المُقررة في العام المقبل. وصرح العمدة سالا، بأنه «مصدوم»، مُعرباً عن «إنكاره» لتفسير مكتب الادعاء العام للحقائق.

من جانبه، قال كاتيلا في بيان أصدره منذ أيام، إن «كويما» استعانت بخدمات أحد المهندسين المعماريين في واحد من مشروعاتها وكان عضواً بلجنة هندسة المناظر الطبيعية في مجلس المدينة. وأشار إلى مزاعم المحققين بأن هذا ربما كان ذا تأثير على قرار مجلس المدينة الذي وافق على المشروع. وتابع: «لقد أجرينا تدقيقاً داخلياً وتأكدنا من سلوكنا موافق للنظم المتبعة وهي التفاصيل التي سنطلع السلطات عليها».

ومع ذلك، زعم مكتب الادعاء العام، بأن «لجنة هندسة المناظر الطبيعية في مجلس المدينة تقع في صميم المشكلات التي تعتري مجلس مدينة ميلانو.. لأنها يشوبها فساد ممنهج». وتجدر الإشارة إلى إطلاقهم على هذا النظام اسم «نظام ميلانو».

وفي عام 2015، استضافت ميلانو معرضاً عالمياً، فانتهزت الفرصة لتُبرز تحوّلها من عاصمة مالية تقليدية ومحافظة لإيطاليا إلى مدينة عالمية نابضة بالحياة.

ويُعزى هذا التحوّل بدرجة كبيرة إلى خطة لإعادة الإعمار الحضري، امتدت على مساحة 340,000 متر مربع، وأسهمت في إعادة تشكيل ملامح المدينة.

ومنذ استضافة المعرض، الذي شغل سالا منصب مديره العام، اجتذبت أسواق العقارات في المدينة استثمارات بقيمة 30 مليار يورو، علاوة على تدفق آلاف المقيمين الأثرياء من بقاع العالم، وكانت التخفيضات الضريبية السخية واحدة من العوامل التي استقطبت هؤلاء إلى إيطاليا.

ومنذ عام 2016، قدّمت إيطاليا للمقيمين الجدد بالمدينة معدلات ضرائب ثابتة على دخل غير محدود يحققونه خارج البلاد، وهي الرسوم التي ارتفعت من مبلغ سنوي قدره 100,000 يورو إلى 200,000 يورو في العام الماضي.

وتمكّنت البلاد بذلك من اجتذاب المغتربين من الأثرياء الذين هجروا المملكة المتحدة بعدما ألغت حكومة حزب العمال هناك في العام الماضي نظام «غير المقيمين» الذي حاز على شعبية في أوساطهم، وكان يمنح المقيمين الذين يقع محل إقامتهم الدائم خارج البلاد مهلة تصل إلى 15 عاماً دون سداد الضرائب على أموالهم في الخارج.

وكان مما جذب المغتربين إلى ميلانو، موقعها المناسب أسفل سفح جبال الألب، إضافة إلى أسلوب الحياة المرفه الذي تُعرف به المدينة.

كما شهدت المدينة تأسيس نوادٍ خاصة للأعضاء على غرار تلك الموجودة في مدينة لندن، مثل «كاسا سيبرياني» و«ذا وايلد»، الموجودين داخل القصر القديم الذي سكنه سانتو فيرساتشي، علاوة على مطاعم فاخرة تستهدف القيام على خدمة الوافدين الجدد الذين ضخوا أموالهم في سوق العقارات الموجودة فيها.

ومن المُقرر لميلانو أن تستضيف الألعاب الأولمبية الشتوية في العام المقبل، وقد اشتركت «كويما» مع «برادا هولدينغ» التي تسيطر عليها العائلة نفسها، في تشييد قرية أولمبية في «سكالو دي بورنا رومانا»، وكانت ساحة للسكك الحديدية فيما سبق تقع في الجهة المقابلة من مقر «برادا» في الضاحية.

وقد أسهمت هذه الطفرة في تعزيز إيرادات «كويما»، التي تضاعفت أرباحها السنوية ثلاث مرات على مدى العِقد السابق.

ومع ذلك، فقد تسببت هذه الطفرة في أن يتجاوز الإسكان القدرة على التحمّل مادياً للأسر العادية في ميلانو.

وقد ارتفعت أسعار العقارات السكنية في ميلانو بنسبة 50% منذ عام 2016، ووصلت إلى 5,500 يورو في المتوسط للمتر المربع، بزيادة قدرها 2.5 مرة مقارنة بالمتوسط الوطني، في وقت انخفضت فيه الأجور الحقيقية.

وأثارت هذه التكاليف المتزايدة، انتقادات من جانب الأحزاب اليمينية والشعبوية، التي اتهمت العمدة، وهو وجه بارز في أوساط نخبة ميلانو، بتفضيل «المضاربين العقاريين» والمستثمرين الأجانب على حساب الأسر العادية.

وفي منشور انتشر بقوة على وسائل التواصل الاجتماعي، ذكر المؤلف فيرديناندو كوتونيو قائلاً: «لا تتعلق المسألة حقاً بالتحقيق، وإنما بالأفراد الضالعين في نموذج التطوير والمسؤولين عنه الذين منحوا الأولوية لاجتذاب رؤوس الأموال على حساب أي شيء آخر».

وأسهب: «لقد حكم اليسار هذه المدينة طوال 14 عاماً، تحوّلت ميلانو خلالها إلى مدينة يستحيل العيش فيها اعتماداً على الراتب... الأمر مؤسف للغاية».

كما أسفرت الشكاوى حيال تطوير الأبراج الشاهقة المتعددة التي تمددت، وبصورة أساسية في أحياء الطبقة العاملة، عن سلسلة من التحقيقات في تسريع وتيرة إصدار تصاريح البناء وتجاوز السلطات المحلية للقواعد.

ومنذ بداية العام الماضي، صادرت السلطات أكثر من 100 موقع للبناء، استثمر فيها العديد من المطورين الإيطاليين والأجانب ما تقارب قيمته 12 مليار يورو مجتمعة، مما عطّل عمليات التشييد.

وبيعت غالبية عمليات التطوير خارج المُخطط، مما ترك 13,500 مُشتر مُحتمل غارقين في حالة من عدم اليقين.

وقال أحد المستثمرين معلقاً: «سيستولي ملك العقارات كاتيلا على عناوين الصحف، غير أن المشكلة أعمق من مجرد هذا... فالمدينة في حالة طفرة، لكن تُرى، ما الذي يحدث في الكواليس؟».

وأضاف: «لا يعلم أحد حقاً، لكني أشك في مواصلة المستثمرين الأجانب ضخ الاستثمارات وسط مزاعم الفساد هذه ومصادرة المباني».

من جانبه، استنكر سالا هذه الادعاءات بشأن وجود «نظام ما» في ميلانو.

وقد سعى هو نفسه إلى الترويج لتشريع وطني، أطلقت الصحافة المحلية اسم «انقذوا ميلانو»، يهدف إلى تغيير تفسير قواعد بعينها لإعادة الإعمار الحضري، وبيّن أنها تقع في لُب المشكلة، في محاولة من جانبه لفك المصادرة عن بعض البنايات التي صادرتها السلطات.

غير أن التحقيق واسع النطاق تضمّن ادعاءات تتجاوز مجرد تفسير قواعد التخطيط العمراني، من بينها مزاعم بوجود فساد منهجي.

أما ماتيو سالفيني، ابن مدينة ميلانو وزعيم حزب «الرابطة» اليميني ونائب رئيسة الوزراء، فقد لفت إلى أنه «مذهول» من الادعاءات التي احتوتها طلبات الاعتقال، وأنه «قلق» بشدة إزاء إدارة مجلس المدينة.

وتضخمت الدعوات المطالبة باستقالة سالا لكن جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء، دعت إلى ممارسة الحذر. وصرحت: «لا ينبغي أن يؤدي التحقيق بصورة تلقائية إلى تنحي سياسي عن منصبه».

ومع ذلك، فقد ألقى التحقيق ظلالاً على مستقبل سالا السياسي في واحدة من معاقل يسار الوسط في البلاد، وكذلك على التوسّع العمراني في ميلانو الذي يبدو وأنه لم يكن ليتوقف.

وقال المستثمر: «يجب على المرء الاعتراف بأن التوسّع العمراني في ميلانو كان سريع الوتيرة، في بلد غالباً ما تكون البيروقراطية أشد بأساً فيه من رغبة المستثمرين، علاوة على التعقيد الشديد الذي تحتويه القواعد».

واستطرد أن الأمر كان «رائعاً، لكنه بات سلبياً على ما يبدو».