شبح التضخم الجمركي يطلّ برأسه في الأسواق الأمريكية

روبرت أرمسترونج - أيدن رايتر - هاكيونج كيم

سجّلت معدلات التضخم – الأساسي والعام – في الأسواق الأمريكية ارتفاعاً خلال شهر يونيو الماضي، حيث ارتفع المؤشر الأساسي، الذي يحظى بمتابعة أكبر من قبل الاقتصاديين، من 2.8% إلى 2.9%. ورغم أن هذه الزيادة الطفيفة جاءت ضمن نطاق التوقعات، إلا أن التقرير يحمل مؤشرات قوية على أن الرسوم الجمركية بدأت تدفع الأسعار نحو الصعود.

وارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة 0.2%، مدفوعة بزيادات ملحوظة في قطاعات الأجهزة المنزلية والملابس والمفروشات، وهي بالضبط الفئات التي حذّر المحللون كثيراً من أنها ستكون أولى ضحايا التضخم المرتبط بالتعريفات الجمركية.

وفي هذا الإطار، صرح صامويل تومبس من مؤسسة «بانثيون ماكرو إيكونوميكس»: «شهدت الأسعار ارتفاعاً حاداً بشكل خاص للسلع المستوردة بصفة أساسية، بينما كانت وتيرة الارتفاع أبطأ بكثير للسلع المصنعة محلياً في الولايات المتحدة».

وقد استجابت الأسواق لهذه المعطيات – وإن كان بشكل طفيف، حيث ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات وسنتين بمقدار 5 نقاط أساس، مما يعكس في الغالب توقعات التضخم المتزايدة. فقد بدأت مقايضات التضخم لأجل سنة في الصعود منذ الأسبوع الماضي، بعد أن صعّد ترامب من تهديداته بشأن الرسوم الجمركية، لتواصل ارتفاعها مجدداً، كما شهدت أسعار الفائدة المتوقعة للاحتياطي الفيدرالي – وفق العقود الآجلة – انخفاضاً طفيفاً، مع استمرار توقعات المستثمرين لما بين خفض واحد وخفضين بحلول نهاية العام الجاري.

ورغم هذه المؤشرات، حمل تقرير التضخم بعض الأخبار الإيجابية. فقد سجلت أسعار المأوى – التي طالما مثلت تحدياً للفيدرالي – انخفاضاً حاداً خلال الشهرين الماضيين، كما تراجعت أسعار المركبات في يونيو رغم الرسوم الجمركية البالغة 25 % المفروضة على السيارات. ووفقاً لصامويل تومبس، فإنه لولا انخفاض أسعار السيارات، لكانت أسعار السلع الأساسية قد ارتفعت بنسبة 0.5 % بين مايو ويونيو، وهو أعلى معدل شهري منذ يونيو، في ذروة موجة التضخم التي أعقبت الجائحة.

ويرى غالبية المحللين أن ما نشهده الآن ليس سوى بداية لموجة التضخم المدفوعة بالرسوم الجمركية، حيث دأبت الشركات على استنفاد مخزوناتها الحالية وامتصاص تكاليف الرسوم الجمركية في انتظار رؤية واضحة حول «صفقات» ترامب، وهو وضع لا يمكن أن يستمر طويلاً.

وأشار برادلي ساندرز من «كابيتال إيكونوميكس» إلى أن البيانات الحديثة تكشف أن بعض شركات السيارات قد شرعت بالفعل في رفع الأسعار. أما توم بورسيلي من شركة «بي جي آي إم»، فيتوقع أن يصل معدل التضخم العام إلى ما بين 3 % و3.5 % خلال العام المقبل إذا استقرت الرسوم الجمركية عند المستويات الحالية. ويؤكد بورسيلي ومعه العديد من المحللين الآخرين أن التضخم الناجم عن الرسوم الجمركية سيكون مؤقتاً في الغالب، بيد أن الفيدرالي لن يستطيع تجاهل تأثيراتها حتى يتبين المستوى النهائي الذي ستستقر عليه الرسوم الجمركية التي يفرضها الرئيس. وإذا ما ساءت أوضاع سوق العمل قبل اتضاح الصورة، فسيواجه الفيدرالي خيارات عصيبة.

في الوقت نفسه، يمر مستثمرو سندات الخزانة الأمريكية بواحدة من أحلك الفترات في التاريخ، إذ هبطت العوائد الاسمية على السندات القياسية لأجل 10 سنوات إلى مستويات غير مسبوقة على مدار العقد الماضي. ومن منظور العوائد الحقيقية، قد لا تكون الصورة قاتمة بقدر ما كانت عليه خلال السبعينيات أو في أعقاب الحربين العالميتين، بيد أن الأمور تظل مؤلمة للغاية.

وثمة طرق عدة لقياس عوائد سندات الخزانة، لكن الاتجاه العام يبقى متشابهاً بصرف النظر عن المنهجية. وعلى سبيل المثال، طور أسواث دامودران من كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك نموذجاً لحساب عوائد السندات العشرية على مدى فترات استثمارية سنوية، من خلال احتساب معدل الكوبون في نهاية العام السابق وطرح التغير في سعر السند بذلك المعدل. ورغم التذبذب الكبير في العوائد من عام لآخر، يظل المنحنى التنازلي المؤسف جلياً للعيان.

والأسباب وراء هذا الوضع باتت مفهومة تماماً، فموجة التضخم التي أعقبت جائحة كوفيد دفعت الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة بشكل متتالٍ، مما أدى إلى انهيار أسعار السندات، بينما قلص التضخم من العوائد الحقيقية، وصولاً إلى عام 2022 الكارثي، الذي شهد انهياراً متزامناً للسندات والأسهم على حد سواء. لكن ما يهم المستثمرين حقاً هو استشراف آفاق العقد المقبل.

وفي هذا السياق، يقول سكوت ديماجيو من «أليانس برنشتاين»: «بالنظر إلى السنوات العشر القادمة - وهي فترة يصعب استقراؤها بدقة - فإننا نعتقد أن المعدل المحايد للفيدرالي سيستقر عند نحو 3 بالمائة. وبالتالي، فإن عائد السندات العشرية سيتراوح على الأرجح حول 3.75 بالمائة. وإذا اعتبرنا ذلك مؤشراً استشرافياً موثوقاً للعوائد، فمن المرجح أن نشهد عائداً اسمياً يتراوح بين 4 % و4.25 %».

ومع الأخذ في الاعتبار توقعات التضخم، يُقدّر ديماجيو أن العوائد الحقيقية ستتراوح حول 2 %. وهو رقم ليس بالهين، غير أنه يمثل تحولاً جذرياً عما اعتاد عليه المستثمرون خلال موجة الصعود الطويلة للسندات التي انتهت في 2022. فوفقاً للكتاب السنوي لعوائد الاستثمار الصادر عن «كريدي سويس» - الذي توقف إصداره - بلغ متوسط العوائد الحقيقية السنوية لسندات الخزانة بين عامي 1980 و2010 نحو 6 % سنوياً.

ويبقى ما إذا كانت العوائد المستقبلية ستكون أعلى أو أقل من توقعات ديماجيو المركزية (2%) مرهوناً بشكل رئيسي بمسار التضخم. وهذه الضبابية تنعكس بالفعل في العوائد على شكل علاوة مخاطر. وكما يشير كريستوفر بريجاتي من مؤسسة «إس دبليو بي سي» فقد «شهدنا مؤخراً قدراً كبيراً من عدم اليقين – ونحن لا نعلم ما الخطوة التالية، أو متى ستُفرض الرسوم التالية. وهذا يضفي طبقة إضافية من الغموض والقلق على الأسواق. ونتيجة لذلك، نلاحظ ارتفاعاً تدريجياً في علاوة الأجل بالسوق، إذ بات المستثمرون يطالبون ويتوقعون أداءً وعوائد أفضل».

وهكذا، فإنه إذا اتضحت معالم التضخم بشكل أكبر، ولم تتحقق مخاوف التضخم المرتبطة بالرسوم الجمركية، فسيتمكن مستثمرو سندات الخزانة من جني تلك العلاوة. أما على المدى البعيد، فسيكون من المخاطرة التخطيط لعوائد حقيقية تتجاوز 1 أو 2 % من مخصصات سندات الخزانة في المحافظ الاستثمارية. وعموماً، فقد أسدل الستار على العصر الذهبي.