خُدعة اسمها «سوق العمل»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ماذا لو اكتشفت أن جهودك طيلة سنواتك الدراسية لم تكن إِلا مضيعة للوقت؟ لنرجع لأول سؤال تم طرحه على الأطفال في بداية حياتهم الدراسية: "ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟" الإجابة كانت برسومات بدائية تصف شخصياتهم المستقبلية كالشرطي والطبيب والمدرّس والإطفائي.

هذه الرسومات تدُل على شجاعة الأطفال في استخدام "مُخيّلتهم" عند الإجابة عن أي سؤال. وتثبت أن الإنسان بفطرته يهدف لخدمة المجتمع. وتُبَيّن أن تساؤلاتهم البريئة عمّا يجري من حولهم ساعدتهم في تخيّل مستقبلهم. ولكن الأطفال لم يلبثوا بالاستمتاع بأحلامهم التي علقوها على جدران فصولهم وحتى بدأ النظام الدراسي يُدخلهم في رحلة محو هذه الأحلام. فبعد الانتهاء من المرحلة التمهيدية التي كانت مليئة بالغناء والمرح والرسومات، تفاجأ الأطفال بالحقيقة المُرة عند دخولهم الصف الأول.

فالمنهج الدراسي تم تقسيمه لإعدادهم للدراسة الجامعية ومن ثم لوظائف مستقبلية. والأطفال أصبحوا يقضون سنواتهم الدراسية الإثنتي عشرة فقط لاجتياز الامتحانات عن طريق حفظ المنهج في معظم الأحيان. ولم تصبح هناك حاجة لاستخدام المخيلة في الإجابة عن أية تساؤلات.

للأسف الأهداف تغيرت، بل وانحرفت عن مسارها الطبيعي. إذ أصبح هدف المدرسة إتمام المنهج الدراسي بدلاً من خلق جيل جديد يتمتع بقدر من الوعي وحب التساؤل والكثير من المخيلة. وأصبح هدف الطلبة النجاح في الامتحانات فقط وبعلامات تؤهلهم للالتحاق بالجامعة بدلاً من استغلال المرحلة الدراسية لتنمية قدرات يحتاجونها في بناء المجتمع.

ومع اقتراب موعد التخرج من المرحلة الدراسية الثانوية، يَدخُل الطلبة في أَرَق اختيار تخصصهم الجامعي. سؤال كان سهل الإجابة عنه عند الصغر برسومات بريئة كانت حِينَئِذٍ تصف شخصيات يحتاجها المجتمع. أما الآن فأصبح اختيار التخصص مبنياً على احتياجات سوق العمل وعلى قدر الراتب الشهري الذي قد يجنيه الشخص عند حصوله عَلى وظيفة معينة.

وبعد اختيار التخصص والانتهاء من الدراسة الجامعية فوجئ الطلبة بأن المؤسسات في حالة تخبط إذ أصبحت البيئة الاقتصادية سريعة التغير ومليئة بالتقلبات. وهذا بالتالي أدى إلى تغير نوعية الوظائف المطلوبة لدى الشركات. وهنا جاءت الطامة الكبرى إذ أصبحت مخرجات التعليم لا تلبي احتياجات سوق العمل.

حقيقة مرة وصدمة مؤلمة أن مجهوداتنا الدراسية للاستعداد لوظائفنا المستقبلية ذهبت هباءً منثورا إذ أصبحت المهارات والقدرات التي اكتسبناها منتهية الصلاحية قبل البدء باستخدامها.

وفي ظل هذه التقلبات المتكررة أصبحت المؤسسات تستجدي الابتكار كوسيلة لمواجهة التحديات وبالتالي الحفاظ على وجودها وعلى نموها الاقتصادي الدائم. ولكن الابتكار يحتاج إلى استخدام المخيّلة والتعوّد على طرح الأسئلة والتحلي بالشجاعة لتطوير أفكار وحلول مميزة. وهذه الصفات بعيدة كل البعد عما تعوّدنا عليه طوال سنواتنا الدراسية. فالتلقين والحفظ والتركيز على المنهج من أجل النجاح في الاختبار لم يعد له أية حاجة لتلبية المتطلبات الجديدة لسوق العمل.

وهنا وصلنا لنقطة يعتبر الكل فيها خاسرا، خريجو المدارس والجامعات خاسرون، إذ إن معظم المهارات التي طوّروها لا تمت بأي صلة لمتطلبات الوظائف الجديدة. والمؤسسات خاسرة أيضاً، لأن القوى العاملة التي يحتاجونها لتجديد طرق عملهم ومواجهة التحديات ليست مؤهلة لما تحتاجه البيئة الاقتصادية. أما المدارس فهي أيضاً خاسرة بسبب عدم توفيقها في تحقيق هدفها الرئيسي، ألا وهو تخريج جيل لَهُ القدرة على مواصلة التقدم في كافة المجالات.

الخروج من هذا المأزق ليس عن طريق تطوير أنظمتنا التعليمية كي تتوافق مع متطلبات سوق العمل. فهذا يدخلنا في نفس الدوامة إذ إن الوظائف المطلوبة تتغير متأثرة بالتغيّر السريع في البيئة التي نعيش فيها. فالخروج يتطلب التوقف عن بناء الإنسان فقط لشغل وظائف، وبدلاً من ذلك التركيز على بنائه للمساهمة في تحسين مختلف جوانب الحياة. بناء إنسان يهتم بصحته ويقدّر العلاقات الاجتماعية ويتمتع بجانب أخلاقي قوي ويجعل من أولوياته خدمة المجتمع. بناء إنسان يتحلى بالشجاعة في طرح الأفكار التي قد تكون مغايرة عمّا هو متعارف عليه ولا يخجل من التساؤل عن كل شيء يجري حوله.

بهذا، نكون طوّرنا إنساناً ليس لتلبية احتياجات سوق العمل ولكن لبناء حضارة بشرية مهما كانت التحديات والتغييرات.

*كاتب إماراتي

emirates@albayan.ae

Email