الذهب عاد وفي جعبته رسالة لنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

من السهل التهكم على مناصري شراء الذهب، لكن ربما حانت لحظة شعورهم بالنصر المظفر. فالمعدن النفيس يحظى بمكاسب هائلة في الآونة الأخيرة، بعد بيانات التضخم التي فاقت التوقعات في الولايات المتحدة، إلى جانب التوتر العام حيال كل الأشياء التي تتراوح بين الظروف الجيوسياسية والانتخابات الرئاسية التي تُجرى في نوفمبر، وحتى ما ستؤول إليه السياسة النقدية والأسواق.

كل هذه الأشياء أسباب وجيهة لارتفاع الذهب. لكن هناك رسائل أعمق وطويلة المدى وراء هذا العصود، ويجب على المستثمرين أن يولوها انتباهاً جيداً.

لنبدأ بالتضخم. وبغض النظر عما سيحدث في الأرباع السنوية المقبلة، لطالما ظننت أننا نعيش حقبة من التضخم «الأعلى لفترة أطول». وبتنحية احتمال حدوث معجزة في الإنتاج مدفوعة بتقدم تقني، فمن الصعب تخيل الاقتصاد الكلي حاليا بدون تضخم.

يتسارع الاقتصاد بفضل التحفيز المالي في أمريكا ووفرة في سلاسل التوريد مع تجنب الدول للمخاطر، إلى جانب كل الاستثمارات المطلوبة للتحول نحو الطاقة النظيفة، وعودة الدول الغنية للتصنيع. حتى مواليد فترة الطفرة الأمريكيين يرجح أن يكونوا قوة معززة للتضخم، بالنظر إلى تمتعهم بالصحة والوقت والكثير من الأموال لينفقوها.
والذهب أداة للتحوط ضد التضخم. لكنه أيضاً أصل يلجأ إليه المستثمرون عند شعورهم بالقلق من استقرار الوضع القائم. قد يفتر زخمه طيلة عقود، لكنه يشهد طفرة عندما يمر العالم بمنعطف بالغ الأهمية، مثل الذي نعيشه الآن.

لا يخفى على أحد انتهاء إجماع واشنطن، الذي توقع اتباع الدول الناشئة لقواعد السوق الحرة التي وضعها الغرب، وفترة سلم ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قد انتهيا. وتتنامى التوترات التجارية بين الغرب والصين. في الوقت نفسه، سرّع استخدام الدولار كسلاح عقب الحرب في أوكرانيا تحركات كثير من الدول، في مقدمتها الصين، لبيع سندات الخزانة وشراء الذهب باعتباره تحوّطاً ضد الهيمنة المالية الأمريكية. ومن السهل تخيّل كيف أن التصعيد الذي حدث في الشرق الأوسط بعطلة نهاية الأسبوع الماضي سيساهم في تعزيز الذهب.

تسبب هذا التحوّل في توقع كثير من المحللين ارتفاعاً هائلاً في أسعار الذهب. ويتنبأ فيليب جيسلز، كبير الاستراتيجيين لدى «بي إن بي باريبا فورتيس»، وزميله كوين دي لوس، كبير الاقتصاديين، وهما مؤلفا كتاب «اقتصاد العالم الجديد في خمسة اتجاهات»، بارتفاع الذهب من مستوياته الحالية البالغة نحو 2374 دولاراً للأوقية ليبلغ 4000 دولار «في المستقبل غير البعيد». وحسب قول جيسلز: «لا يتعلق الأمر بأسعار الفائدة، فالناس يتحوّطون ضد عالم جديد».

كنت مهتمة بمطالعة التغريدة التي نشرها الخبير الاقتصادي براد سيتسر الأسبوع الماضي، وأشار فيها إلى عودة الحيازات الصينية من الأصول المالية الأمريكية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، إلى المستويات المنخفضة المُسجلة عند انضمام بكين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. ولم يتجه كل ذلك إلى الذهب بالطبع، (فقد تم تحويل الكثير إلى احتياطيات نقد أجنبي تم ضخها في البنوك الصينية التي تعاني مشاكل). لكن هذا يعكس العالم المتغير.

ومثلما أفاد تقرير حديث صادر عن «كرنسي ريسيرش أسوشييتس»، فإن «شراء الصين للذهب وبيعها لسندات الخزانة يحاكي استبدال البنوك المركزية الأوروبية الدولار بالذهب في أواخر ستينيات القرن الماضي، مع بدء انهيار نظام بريتون وودز».

وكان هذا بداية آخر مكاسب طويلة ومستدامة للذهب، عندما ارتفع مقابل مؤشر «داو جونز» والدولار، من 1968 إلى 1982. وهناك نواح أخرى تتشابه فيها تلك الفترة مع اليوم. في عام 1971، عندما كان ريتشارد نيكسون رئيساً، فرض تعريفة جمركية قدرها 10% على الواردات، بعد إلغائه معيار الذهب. كان هذا خفضاً غير رسمي لقيمة الدولار؛ حماية للسلع الأمريكية الصنع من تقلبات أسعار الصرف.

وبالطبع، يقترح دونالد ترامب فرض تعريفة جمركية شاملة على الواردات بنسبة 10% إذا تم انتخابه لفترة رئاسية ثانية. ووجه ترامب انتقادات لإضرار قوة الدولار بالمصنعين الأمريكيين. لكن الرحلة الأخيرة التي قامت بها وزيرة الخزانة جانيت يلين إلى بكين للاحتجاج على الإغراق الصيني تؤكد حقيقة أن إدارة بايدن قلقة بنفس القدر على الصناعات والعمال الأمريكيين.

والسبب الأخير للتفاؤل إزاء الذهب هو وضع الدين والعجز الأمريكي، المسرع نحو عدم الاستدامة. وتشير آخر توقعات مكتب الموازنة بالكونجرس إلى بلوغ الدين الأمريكي 99% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام الجاري، وأنه يتجه صوب 172% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2054. وإذا تحقق هذا، فسيسفر عن تسييل وتضخم وقمع مالي، فضلاً عن حقبة تسودها الفوضى الشديدة في السياسة النقدية والأسواق. سيكون ذلك سلبياً للعالم، لكن إيجابياً للذهب.

هل ثمّة أي أمل في وضع مختلف؟ أعتقد أن التضخم سيتسبب في تآكل قدر من الديون، لكن بقاء الفائدة مرتفعة لمدة أطول سيسفر عن موقف غير مُستدام مالياً، لأن أسعار الأصول ستنخفض، وبالتالي العوائد الضريبية.
ومع ذلك، سيكون المزيد من الأموال السهلة إيجابية للذهب بما لا يدع مجالاً للشك. وفي مثل هذه اللحظة الغريبة من التحولات في النماذج الاقتصادية والسياسية، يبدو أن غالبية الأمور تتسم بالغرابة نفسها.

كلمات دالة:
  • FT
Email