يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» (النمل:60)، هذه الآية الكريمة تدل على أن حكمة خلق النبات والأشجار لا تقتصر على الفوائد الحيوية المعروفة من كونها غذاء للإنسان والحيوان، أو رئة تتنفس بها البيئة بل إن لها وظيفة أخرى تؤديها الأشجار والحدائق في حياة الإنسان ووجدانه.
وفي ذلك يقول الدكتور راغب السرجاني، إن تلك الصبغة الجمالية التي تميُّز الطبيعة على اختلاف مكوّناتها ليست إلا تطبيقاً لقاعدة عامة أقرها الله تعالى في كل ملمح من ملامح الكون، كما أحب لعباده أن يتخلقوا بها.. تلك هي قاعدة (الجمال)! وذلك كما روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله جميل يحب الجمال»..
ولعل من اللافت للنظر كثرة الحديث عن الشجر والثمار والجنات في القرآن الكريم.. حيث وردت لفظة شجر بمشتقَّاتها في القرآن نحو 26 مرة، كما وردت لفظة ثمر بمشتقَّاتها 22 مرة، ونبت بمشتقاتها 26 مرات، وذكرت الحدائق 3 مرات.. أما الجنة مفردة ومجموعة فقد وردت 138 مرة!!
حتى عندما يعرض القرآن الكريم للأشجار والثمار من حيث هي طعام للإنسان والأنعام.. يأتي ذلك العرض في سياق لافت لجمال المنظر!.. قال تعالى: «فلينظر الإنسان إلى طعامه.. أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهة وأبّاً، متاعاً لكم ولأنعامكم..»، سورة عبس 24: ,32. وانظر إلى التعبير القرآني الجميل: «متاعاً لكم ولأنعامكم»..
وإلى جانب إظهار الحكمة الجمالية من وراء خلق الحدائق بأشجارها وثمارها على هذا النحو البديع... فقد كان لتصوير القرآن الكريم والسنَّة المطهرة للجنة، بما تحتويه من متع حسية ومعنوية، إلى جانب محاولة التغلب على الظروف الصحراوية القاسية... كان لتلك العوامل مجتمعة أثر قوي في دفع المسلمين لمحاكاة هذا التصوير المثالي في تصميم وتنسيق الحدائق الإسلامية؛ فالحدائق بصفة عامة تعكس العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
أما في العالم الإسلامي فتضاف رؤية أخرى لمفهوم الحدائق من حيث كونها صورة تعبر عن الشوق الإسلامي العميق للفردوس أو الجنة.. وقد تميزت العمارة الإسلامية بما يمكن أن نطلق عليه: «النظرية الفردوسية».. في محاولة لإيجاد حدائق وجنات أرضية داخل بيئات تتسم بظروف مناخية قاسية، بغرض تحسين وتجميل هذه البيئة.
ومع نمو الفنون والعمارة الإسلامية وتطورها أصبح الاتجاه في تصميم الحدائق يحاول التأنُّق ويبرع فيه لإضفاء تلك البهجة التي وصف بها القرآن حدائق الأرض كما مرَّ منذ قليل.
والمتأمل للعديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن الجنات الأرضية أو الأخروية يندهش من دقة الوصف القرآني الذي استلهم من خلاله المسلمون العناصر الأساسية والجمالية عند تنسيق حدائقهم أو عند اختيار مواقعها.
