كان الظلام الموحش يلف مدينة ساو باولو البرازيلية إحدى أخطر مدن العالم في ساعة متأخرة من الليل حيث يخاف الخوف نفسه، وخطوات الشرطة تتسارع وهي تداهم أحد المتاجر الكبرى للقبض على لصٍ شوهد يذرع المتجر خلسة لفترة طويلة، وما هي إلا لحظات إلا وكان ملقياً على الأرض مقبوضاً عليه.

وكم كانت مفاجأة الشرطة عندما لم يجدوا معه سوى شريط للقياس ومصباح يدوي وكرّاسة صغيرة مليئة بأرقام كثيرة، لم يكن الرجل سوى (سام والتون) صاحب متاجر التجزئة الأميركية الشهيرة ( وول مارت) المهووس بالتطوير والتحسين لخدمات متاجره والوحيد الذي استجاب لدعوة غرفة التجارة البرازيلية لزيارة بعض القطاعات التجارية فأتى لاقتباس أفكار جديدة وصلت لدرجة قياس أبعاد الممرات وارتفاعات الأرفف للمتاجر بعد إغلاقها !

لست هنا أحاول تسويق التصرفات المتطرفة في نزعتها ولكن أردت أن أُوضِّح لأي مدى قد يصل الطموح والرغبة في التميز غير المسبوق بالناجحين، فالتاريخ لا يحني قامته للكسالى ومن يصحو متأخراً من نومه ظانّاً أنّ الدنيا ستنتظر استيقاظه المبارك لتبدأ عجلة حركتها، أو ذاك الذي ارتضى أن يتبع القطيع فلا يُعرَف إذا حضر ولا يُفتقَد إذا غاب ولا يُستشار إذا تواجد، فالتاريخ كما قيل يكتبه المنتصرون، في أي مجال لا مجال السياسة فقط كما يتبادر لذهن البعض وعلى كثرة صفحاته إلا أنها لا تتسّع لجحافل الهوامش وقوافل الإمّعات التي لا تنتهي، والتي لم تجرؤ على وطء أراضٍ لم يطأها الآخرون ولم تحدّثهم أنفسهم بتغيير ذواتهم على الأقل إن تبيّنوا استحالة تغيير من حولهم!

إن من علت همّته وأراد نيل منازل العظماء لن يرضى لنفسه أن يبقى سجين التفاهات ولن يقبل أن يمشي في مسارٍ لا يسلكه إلا لأنّ من قبله قد سلكه، فذلك المسار لن يوصله إلا حيثما أوصل الآخرين والذين تبعوا في مجملهم أول شخصٍ اختطّ ذلك المسار أو اتّبع تلك الطريقة ثم اقتفاه البقيّة وأصبح مقدّساً مع مرور الوقت، كما وصف هذا الحال رب العزة سبحانه عندما عجز الكفاّر عن ردّ الحق الذي أتى به الأنبياء فرجعوا لشمّاعة العُرف وما وجدوا عليه من قبلهم: (إنّا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ وإنّا على آثارهم مقتدون) وفي آية أخرى (مهتدون) فجمعوا فوق عمى الروح عمى المنطق!

إن ردود أفعال الغالبية من البشر لا تكون تعبيراً عن قناعاتهم الشخصية ولا تمثّل آراءهم الذاتية بل هي انسياق للسير مع ما هو مقبول ومتعارف عليه في العُرف الاجتماعي والذي يُعدّ ما سواه خروجاً عن هذا العُرف وشذوذاً عن العقل الجماعي ومنظومة العادات التي يفرضها على أتباعه، ومن يحاول مناقشة وليس محاكمة تلك العادات لا يسلم من التوبيخ والانتقاد من الجميع لا لصواب تلك العادات، ولكن خوفاً من أن يصيب أي تغيير جديد تلك المنظومة بالارتباك وتبيان ضعفها في مواجهة الحجّة والمنطق!

أنا هنا لا أطالب بتغيير قناعات البشر فذلك أمرٌ متعذّر لكن من المخجل أن يرضى من يدّعي الطموح والتميّز اقتفاء البقية والخوف من فتح نوافذه للجديد والمفيد متناسياً حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من سنّ سُنّةً حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها»، فما ستعمله اليوم سيعمله موظفوك مثلك وسيقتفيه أبناؤك غداً، فأزرع فكرة ولا تزرع سلوكاً، حبب لهم الإبداع وأرشدهم لعشق التغيير وعلمهم أهمية الجديد وضرورة تحسين الموجود بدلاً من جعلهم يتّبعون طريقة سلوكية معينة دون معرفة مسبباتها، وكن واضحاً في بيان أنّ التاريخ لا يضع على صفحاته الإمّعات والمقلّدين ومن يمشي في «ظل الحائط» أو أولئك الذين لا يجرأون على مجرد التفكير بمناقشة مسلّمات العادات.

لفت انتباهي في الفترة الأخيرة تصرّف عائلة أنييلي الإيطالية مالكة شركة فيات للسيارات والتي كان من أعرافها التي لا تقبل الأخذ والرد قصر منصب رئاسة الشركة على أحد أبناء العائلة فقط حتى سقطت في دوامة الخسائر وشارفت على الإفلاس بعد فشل اندماجها مع شركة جنرال موتورز قبل أن تتخذ العائلة قراراً جريئاً بإلغاء ذلك التقليد البائس وتعيين سيرجيو مارتشيوني رئيساً لفيات ليُحدِث زلزالاً إصلاحياً لا يكاد يقل عمّا فعله كارلوس غصن في نيسان، وبعد أن كانت فيات تخسر مليوني يورو يومياً أصبحت تربح خمسة ملايين يورو في اليوم الواحد ولتستعيد الشركة العريقة بريقها الذي كاد يأفل لولا تمرّدها على عادات بالية قدّسها الخائفون من التغيير!

إن العادات السلبية كما يقال أشبه بالفراش الدافئ.. من الجميل البقاء فيه ومن الصعب جداً الخروج منه، لذلك كان صانعو الفارق قلّة وعُشّاق ذلك الفراش هم الكثرة الكاثرة والإنسان مُخيَّر إمّا أن يكون من أولئك النخبة أو ينام مع بقية النائمين ويبني ممالك بأحلامه ويملأ الدنيا تذمراً وشكوى بأنه لم يُعط حقه من الاهتمام، وبأنه لو حصل على الفرصة لفعل وفعل كما ورد هذا المعنى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما يُروى أن: «.. العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني».

والنفس تهوى السكون والراحة والخمول في الغالب ولا يخرج من هذا النطاق إلا أصحاب الهمم العالية ممن يعتقد جازماً أنّ بإمكانه هزّ أبواب التاريخ مهما تندّر به السخفاء وحاول تثبيط عزيمته فاقدو العزم ومعدومو الطموح وكم كان معن بن زائدة الوزير الشهير رائعاً في تقدير نفسه وهمّته عندما أتاه رجل فقال له: «إني قد أتيتك في (حويجة)!» فردّ عليه معن ردّاً مقتضباً لكنّه يمثل توجّهاً نفسياً عميقاً لا يعيه إلا من احترم ذاته دون كبرياء مبتذل أو تواضع في غير محله: «يا هذا. ابحث لها عن (رويجل)!».

كنت أقرأ لأحد الإخوة القصة الإفريقية الشهيرة عن الغزال والأسد والموجودة في افتتاحية كتاب (رؤيتي) فرأيت ابتسامة باردة على وجهه قبل أن يجيبني بأنّ القصة قد استُهلِكَت كثيراً بتردادها فسكتّ استغراباً لا لانعدام الجواب، فصانعو الفارق لا يقفون مشدوهين أمام جمود اللفظ وسطحية التراكيب بل هم أقدر الناس على قراءة ما بين السطور وما خلف الكلمات، فلا فائدة من حفظ أمثال وحكم وقصص إن نسينا الأهم حيالها ألا وهو الاستفادة من ذلك المحفوظ بدلاً من أن نبقى كالببغاوات التي تردّد كلاماً لا تفقهه ونترك ما فضّلنا الله به على سائر خلقه وهو العقل في إجازة مفتوحة!

إن القرار بيدي ويدك فإما أن نتبع القطيع ونبقى عالة على الدنيا أو أن نتيقن في قرارة أنفسنا أولاً أننا ولدنا لنجبر التاريخ أن يحجز لنا صفحات عدّة بطموحنا وقدرتنا على خلق المختلف والمميز. ولن أُطالب أحداً أن يمسك بمصباح وكراسة ثم يتفحص أحد المتاجر ليلاً فقد لا يروق ذلك كثيراً لضاحي خلفان!

الوكيل المساعد لدائرة البلديات والزراعة بالعين وعضو مجلس الخدمة المدنية لامارة ابوظبي

awad141@yahoo.com