رسالة إلى الشاعر أبي الطيّبِ المتنبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألا يا أيّها العَلَمُ المزكَّى

من النقّادِ في كلِّ العُصورِ

ويا منْ قدْ رَفعْتَ الشِّعرَ قَدْراً

ومنزلَةً كمنزِلةِ الصّقورِ

ويا منْ قد مَلا الدنيا ضَجيجاً

جَميلاً مِثْلَ تغريدِ الطيورِ

ويا مَنْ أشْغلَ القرّاءَ طُرّاً

بحسْنِ النّظمِ والمعْنى الغَزيرِ

ملكتَ الشّعرَ أزمِنَةً طِوالاً

غَدَوْتَ زعامةَ الفَنِّ النَّضيرِ

لأجيالٍ توالَوْا في حياةٍ

على كَرِّ الممالِكِ والدّهورِ

فإنّكَ لم تَغِبْ يوماً ولكِنْ

جَعلْتَ الشّعرَ حَيّاً في الصّدورِ

أميرَ الشعرِ قدْ خلَّدتْ فَنّاً

عظيمَ القَدْرِ والشّأنِ الكبيرِ

فإن ذُكِرَ الكبارُ فأنتَ فيهمْ

إمامُ الشّعرِ تزهو بالْحضورِ

تنيرُ بهِ الدّياجي مُظْلِماتٍ

بنورِ الفِكْرِ كالقَمرِ المُنيرِ

بيانٌ كالمَعينِ إذا تَهادى

يَشُقُّ طرائِقاً بين الصّخورِ

ويُطْفئُ حَرَّةَ الظَّمآنِ دَوْماً

بعذبٍ سائغٍ فَيْضٍ جَديرِ

بأن يروي جديباً طال وَقْتاً

جميلُ بيانِهِ لَـمْـسُ الحريرِ

رقيقٌ كالنّسيمِ إذا تَبَدَّى

يُهفْهِفُ بالصَّبا خَصَلاتِ حُورِ

نَظمْتَ الشّعرَ ليسَ لَهُ شَبيهٌ

بيوتُ الشّعرِ عندكَ كالقصورِ

فيا عَلَمَ البيانِ لك الدّراري

مُضيئاتٌ كأنْوارِ البُدورِ

تَخطّينَ المدى قَرْناً فَقَرْناً

وَصَلْنا نافحاتٍ بالعطورِ

كمائمُ في الرُّبى تزهو طويلاً

تَفَتّحُ في المساءِ وفي البُكورِ

وَرغْمَ تطاولِ الأيّامِ دامَتْ

لدى القرّاءِ تَنْبضُ بالسّرورِ

فيا متنَبِّيَ الدّنيا بشِعْرٍ

غدا وَجْداً تغَلْغَلَ في الشُّعورِ

شَغلْتَ النّاسَ إذْ يَرْوونَ شِعْراً

تَميّزَ بالجديدِ وبالوَثيرِ

تَغنّى الفاهمونَ بهِ طويلاً

وتَفْضيلاً على جَمِّ غَفيرِ

مِنَ الأشْعارِ قِدْماً أو حَديِثاً

بَقَى كالنّورِ في عَيْنِ الخبيرِ

تَحَدَّيْتَ الفطاحِلَ مَنْ أجادوا

بنظمِ الشّعْرِ دوراً بعد دُورِ

سَبَقْتهمُ بميدانِ التَّحدّي

بعيداً لا تُجارى مِنْ كبيرِ

مَلكْتَ أريكةَ الشّعرِ ابتداءً

كما حُزْتَ البلاغةَ كالبُحورِ

فَصِرْتَ إمامَهُمْ من دونِ شَكٍّ

ولا رَيْبٍ كأنّكَ كالأميرِ

فقد أضفى ابنُ حَمدانٍ عليكمْ

من التبجيلِ والقَدْرِ الكبيرِ

وقَدّم ما تقولُ على سِواهُ

من النّظْمِ الجميلِ أو النّثيرِ

فَكمْ أدْناكَ قُرْباً مْنهُ حتى

كأنّكَ صِرْتَ كالرّمزِ الشّهيرِ

فَسَيْفُ الدولةِ الكبرى بَهيجٌ

بما يَلْقاهُ من وَصْفٍ نَضيرِ

فقد أهْداكَ منْ كَرَمٍ عَطايا

كثيراتٍ كأعْدادِ الزّهورِ

وقد أصْفاكَ وُدّاً ليسَ يَبْلى

على مَرِّ الليالي والعُصورِ

فأغْضَبَ قربُكَ الشّعراءَ طُرّاً

لِما قْد حُزْتَ منْ حالٍ وَفيرِ

لذلكَ قدْ سَعى الواشونَ فيكُمْ

بأنْواعِ الدّسائسِ والشّرورِ

وغادرْتَ البِلادَ وسِرْتَ سِرَّاً

إلى كافورَ تطمَحُ بالكثيرِ

أفاضَ عليكَ منْ غَدَقٍ نَعيماً

يَقلُّ الوصْفُ عنهُ بذي السّطورِ

طلْبتَ وِلايَةً في أرضِ مِصْرٍ

وقد ألْحَحْتَ في طَلَبٍ كبيرِ

وَلمّا أنْ تجاهَلَ ذاكَ حيناً

ولم يَمْنَحْكَ شَيْئاً في الأخيرِ

قَلَبْتَ مديحَهُ ذَمَّاً وشَتْماً

وقَدْ بالغْتَ في ذَمٍّ خَطيرِ

هجَرْتَ بلادَهُ هَرَباً وخَوْفاً

وَواصَلْتَ المسيرَ إلى المسيرِ

وَصلْتَ إلى العراقِ وفِضْتَ عَيْناً

تَحلّتْ بالقدومِ وبالبَشِيرِ

ومنها قاصِداً أرضَ البُويْهي

نَديماً للأميرِ وللوزيرِ

وإذْ ما عُدْتَ تَبْغي دارَ أهْلٍ

بها ترتاحُ من طولِ الهَجيرِ

ولمّا أنْ رأيتَ الدّارَ تَدْنو

سَطا قومٌ عليكَ بلا ضَميرِ

فأُثْخِنَ جِسْمُكَ الواهي بِطَعْنٍ

بأيدي الغَدْرِ مِنْ رَجُلٍ شَريرِ

فَصارَ الناسُ في حُزْنٍ عَميقٍ

طويلٍ في الأسى صَعْبٍ عَسيرِ

Email