أكد الأديب والشاعر العماني حسن المطروشي، الفائز بجائزة «توليولا» الإيطالية للشعر العالمي، في حوار مع «البيان» أن الخليج العربي أرض الشعر، والشعر خرج من جزيرة العرب، مشيراً إلى أن القصيدة التقليدية لها حضورها في الذاكرة وسطوتها على الذائقة الجمعية، والقصيدة الحديثة ضرورة تمليها تحولات الحياة ومستجداتها، لافتاً إلى أن الشعر يبقى ابن الحرية المخلص، ولا يمكن حصره في شكل واحد، كما لا يمكن لشكل شعري أن يلغي الآخر، فكل نوع ينير ما حوله، فهو مشروع جمالي بلوره الشعراء قديماً وحديثاً.

استوقفتني جملة شعرية لديك، تقول: «أنقلُ قبري منذ قرون في الفلوات...» جملة شعرية فيها من الخيال المستحيل حدثنا عن حالة التجلي التي مررت بها أثناء كتابة هذا النص المختلف؟

هذه الجملة وردت ضمن قصيدة «النسل المطرود»، والنص في عمقه الرؤيوي يمثلنا جميعاً، يمثل الإنسان في مواجهة أسئلة الوجود، هذه الأسئلة الحارقة المدمرة، التي حيرت الفلاسفة والعقلاء، الذين وجدوا ذواتهم يخوضون شقاء هذا العالم بكل شروره ووحشيته وقساوته التي تمارسها الطبيعة والإنسان ضد أخيه الإنسان. في لحظة ما تجلت لي البشرية في صيغة كائن مفرد مطارد من قوى الوجود، يهيم على وجهه في برية الله الواسعة، وهو ينقل قبره عبر الأزمنة، فهذه الفلوات الشاسعة التي يقطعها الكائن في مسيرته تلك ليست سوى طريق المجهول الذي سينقطع عند نقطة ما، يترجل عندها المرء لتبتلعه هاوية الأبدية وتطويه رياح المحو والنسيان العاتية.

أخبرني عن العالم الجواني للذات الشاعرة؟

العالم الجواني للشاعر عالم صاخب ملتهب، مليء بالخرائب والأنقاض والتناقضات، تسكنه الوحشة والهشاشة والشكوك والقلق، ويغرق في أوهامه وانتصاراته وخساراته وخيباته وحروبه الطاحنة. عالم تهشمه دمعة طفل وتدميه رفة موسيقى طائشة من وتر بعيد. عالم يرتاده العشاق والمنسيون ويأويه الغرباء وسابلة الليل، ويستظل تحت سرابه المتعبون من معارك الزمن.

أنت قارئ متوسع، ربما لأنك من جيل السفر والمهرجانات الشعرية العربية والأمسيات الأولى... كلمني عن هذه البدايات وتأثيراتها؟

البدايات تنفتح على عوالم لا حصر لها في المخيلة، إنك كمن يفتح قبعة سحرية تتطاير منها الحمامات وتتقافز منها الأرانب وتنسل منها الكائنات الأسطورية. البدايات تعني لي البحر، أو جَدّي الأزلي الذي يفيض بالحكمة والغموض. وتعني العرشان السعفية التي لا تزال ذاكرتي تعبق بروائحها بعد الليل والمطر. تعني لي كتاتيب القرآن في الحارة وعصا المطوع الغليظة. وتعني لي التسلل خفية من حصة الدرس إلى مكتبة المدرسة لقراءة كتاب صغير عن المتنبي أو الفرزدق أو أبي تمام. وتعني لي الذهاب إلى مسقط والتردد على المكتبات العتيقة في سوق السيب ومطرح. وكان حظي كبيراً أن التقيت بأغلب الشعراء الرواد العرب، وكانت لي معهم صداقات عميقة. لقد باتت هذه الذاكرة الكهلة مثقلة جداً بالصخب وضجيج الوجوه والأمكنة.

كل هذا الشعر والحضور... إذاً بماذا تفسر ذهاب الشعراء إلى حقل الرواية يا ترى؟

لا أراه مستغرباً البتة أن يكتب الشاعر شيئاً غير الشعر، أو أن يجمع الكاتب بين جنسين أدبيين أو أكثر. ففي ثقافتنا العربية، نجد الكثير من أعلام اللغة والأدب والفقه والطب يكتبون الشعر. كما نرى العكس أيضاً. وهناك الكثير من الأدباء العالميين كتبوا في الشعر والمسرح والرواية والسينما، بل وكتبوا في النقد الأدبي والثقافي والرسائل الأدبية وأدب الرحلة والترجمة. وأرى أن ذلك يضيف إلى تجربة الكاتب شاعراً كان أو غيره، طالما كان قادراً على تقديم الجديد والمغاير.

نصوصك الشعرية فيها أبعاد حياتية ووجودية وفلسفية، ومع ذلك تقدمها بشكل بسيط يفهمها الجمهور، فهل لك أن تحدثنا عن هذا العالم المشبع بالجرح والحلم؟

القصيدة لعبة سحرية تتطلب مهارة استخراج الفيل من ثقب الإبرة بخفة وبراعة متناهية، من أجل صياغة هذا المزيج الآسر، الذي يحقق اشتراطات الشعرية ولا يتنازل عن معايير الاشتغال الأدبي العالي، حتى لا يسقط النص في فخ الالتقائية والمباشرة الفجة، في حين يحافظ على علاقته بالمتلقي. القليل من الفلسفة ضروري لإثراء النص، شريطة عدم إغراقه بالحمولات الفكرية والأيديولوجية والخطابات الناتئة. الشعر اختزال العالم في جملة مفخخة.

بعد كل هذا، هل صحيح أن المعركة حسمت جمالياً في الخليج العربي لصالح قصيدة النثر التي بلورها شعراء الحداثة قبل عقود؟

الخليج أرض الشعر، والشعر العربي خرج من جزيرة العرب. نحن ورثة هذا الإرث العظيم وحملة هذه اللغة الخالدة. أما بالنسبة للسجال الدائر بين تيار الحداثة وتيار التقليد، فإنني لم أكن يوماً معنياً به، وأنا استمتع بالنص العظيم في أي شكل كان. لا يمكن لشكل شعري أن يلغي الآخر. القصيدة التقليدية لها حضورها في الذاكرة وسطوتها على الذائقة الجمعية. والقصيدة الحديثة ضرورة تمليها تحولات الحياة ومستجداتها. الشعر ابن الحرية المخلص، وإنه من البؤس محاولة حصره في شكل أوحد.

ما الكتاب الذي أثر في مخيلتك الشعرية، وتجربتك في الحياة والكتابة؟

في مخيلتي رف طويل من العناوين التي أثرت في تجربتي كتابياً وحياتياً، فأنا مزيج من أصوات وأفكار تتداخل جميعها لتشكل هذا الصوت الذي هو هنا. حين أعود للبدء أجد كتاب البرزنجي وديوان عبد الرحيم البرعي، هما المؤثران الأولان في حياتي، لأنني كنت أسمع أشعارهما تتداول في جلسات الموالد وزوايا المتصوفة. شغفت جداً بالمتنبي وأبي نواس والمعري وامرئ القيس، ثم فُتِنتُ بشعر الصعاليك العظام. وبعدها جاءت مرحلة الانفتاح على شعر الحداثة والشعر العالمي. لذا فإنه من الصعب بالنسبة لي أن أحدد أيها أعمق أثراً في حياتي الأدبية.

أخيراً كيف يؤسس حسن المطروشي قصيدته؟ وما إحساسه بعد الانتهاء منها؟

القصيدة تداهم المخيلة على نحو مباغت، فأدخل على إثرها فيما يشبه الانخطاف، أو حالة التجلي لدى المتصوفة. ثمة نوع من العروج الروحي يجتاح المرء غير قابل للتفسير. وثمة شرارة سحرية تشتعل في الداخل القصي من الذات، تحتم عليك ملاحقتها، ولكن في أعماقك البعيدة، كمن يلاحق فانوساً طائراً في الظلام. وعند الإمساك به يشعر كمن هبط من قمة جبل شاهق، ويتنفس الصعداء، فيما عينه مثبتة في الأعالي.