جذور

وثائق الأرشيف البرتغالي.. تواريخ وأحداث

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حلقة سابقةٍ لنا في هذه الصفحة تحدّثنا حول الأرشيف البرتغالي في جوا الهنديّة الذي قمنا بزيارته والاطلاع على نظام العمل فيه، وأشرنا إلى ما يتعرض له هذا الأرشيف المهم من مخاطر. وبعد أن نشرنا تلك الحلقة وجدت نفسي منهمكاً في البحث عن أرشيف جوا وتتبّع ما نُشر حوله، وقراءة أهمّ ما نُشر من وثائقه.

عَوْداً إلى ذي بدء

وممّا عثرتُ عليه من قراءات مقال نشره (John LeRoy Christian) (1900 ـ 1945) في عام وفاته وهو 1945 من أنّ أرشيف جوا يحتوي كنوزاً غير متوقّعة حول أحداث القرن السادس عشر، وأنّ هذا الأرشيف تمّت فهرسته حتى عام 1931، ومع ذلك فإنّ وثائق منه قد تلفت بسبب تسرّب الماء والرطوبة، والفيضانات والنمل الأبيض.

ثمّ في عام 1952 نشر المؤرّخ البريطاني الشهير (Sir Charles Ralph Boxer) (1904 – 2000) أنّ أحد المسؤولين البرتغاليين ويدعى بادري أنطونيو دا سيلفا ريغو (Padre Antonio da Silva Rego)، رئيس الكليّة العليا للمستعمرات في لشبونة قام بزيارة الأرشيف في 1951.

وأحضر معه آلة ميكروفيلم فصوّر آلافاً من الأقدام على الميكروفيلم، ونقلها معه إلى لشبونة لتكون متاحة لطلبة الدراسات التاريخيّة لأراشيف ما وراء البحار (Arquivo Historico Ultramarino).

وحينما زار بوكسر نفسه الأرشيف عام 1952 وجد فيه موظَّفيْن اثنين فقط، ولا يُسمح لهما بنسخ المستندات إلا خلال ساعات العمل الرسمية (وكانت حينها من الساعة 8.30 صباحاً حتى 1 ظهراً)، وبالتالي فإن عمليّة النسخ والتصوير بطيئة جدّاً.

ثمّ يتحدّث الباحث (Cyril A. Hromni) في عام 1978 عن الأرشيف فيذكر أنّ المقتنيات الأرشيفية تقدّم دليلاً مفصّلاً للدراسات الدبلوماسية والدينية والسياسية، بالإضافة إلى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، وأنّه أرشيف لا مثيل له من حيث الكمية والجودة في أيّ من الأرشيفات الأخرى.

وهو يلمح ولأول مرّة إلى أنّ وثائق الأرشيف كتبت بعدّة لغات، مثل: الإسبانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والهندية، والتاميلية، والغوجاراتية، والأُردية، والسنهالية، والفارسية، والعربية، والصينية واليابانية وغيرها. إلا أنّ الغالبية العظمى من الوثائق مكتوبة بالبرتغالية.

ويشير في الوقت نفسه إلى دور Panduronga S.S. Pissurlencar المدير السابق للأرشيف البرتغالي في جوا من الحفاظ على الوثائق وإعداد دليل بها، إلا أنّ هذه المحفوظات الثمينة والهشّة تكالبت عليها الرطوبة والحشرات حتى أضحت بعض المستندات غير قابل للقراءة. وفي بعضها ثقوب كبيرة وعميقة.

وبالتالي سيكون مصدر نادر للمعرفة التاريخية قد ضاع بشكل غير قابل للاسترداد ما لم يتمّ استنساخ السجلات بواسطة الميكروفيلم. وهذا ما أدركتْه الحكومة البرتغالية في يناير 1952 عندما اختارت مجموعات من الملفّات صُوّرت بالميكروفيلم، وبقي جزء كبير منها.

السفن المبحرِة في بطاقات التسجيل

في حلقتنا السابقة أشرنا إلى ما يُسمّى: بالكارتاسي أو الكارتاز (Cartazes) وهو نظام من أنظمة الإيرادات التي طوّرها البرتغاليون لإدارة إمبراطورية أعالي البحار التي تأسّست حديثاً. والكارتاز نوع من جوازات السفر أو الرخص البحرية. وبناء عليه فقد أجبر البرتغاليون جميع القوى المحلّيّة على الحصول على إذن منهم إذا كانوا يرغبون في السفر في المحيط الهندي.

ويشمل هذا الإذن المكتوب اسم السفينة ومالكها ونواخذها ومسار الرحلة والقواعد الواجب اتباعها، وجميع البضائع التي تمّ نقلها عَبر البحر، ويمكن أن تخضع هذه السلع للضريبة. وهذا التصريح المكتوب الذي كان على السفن المحلّيّة أن تشتريه من البرتغاليين لتمكينهم من الإبحار في المحيط الهندي.

ومن الجدير بالإشارة إلى أنّه استُبعدت بعض السلع من التجارة التقليدية التي قرّر البرتغاليون بضائع احتكاريّة فطالبوا بدفع الضرائب على جميع تلك البضائع المحمولة في السفن. وأيّ سفينة كبيرة كانت تبحر بدون الكارتاز تتعرّض للمهاجمة والمصادرة. وقد استخدم البرتغاليون قوة أسطولهم لفرض نظام الكارتاز على المحيط الهندي.

وبالتالي فإنّ المحفوظات التاريخية المندرجة تحت الكارتاز والمخزّنة في جوا هي من أفضل المحفوظات في العالَم لِما فيها من بطاقات الملاحة وغيرها.

نماذج وأمثلة مهمّة

ومن أمثلة ذلك بطاقة مؤرّخة بـ13 مارس 1545 بعثها ملك البرتغال جوان الثالث (حكم من 13 ديسمبر 1521 إلى 11 يونيو 1557) إلى دوم جواو دي كاسترو (João de Castro) (27 فبراير 1500-6 يونيو 1548) نائب الملك في الهند البرتغالية. وهذا الرجل في الأصل كان أحد النّبلاء البرتغاليين، وأحد المهتمّين بالعِلم والكتابة.

عُيِّن في بداية أمره قائداً للأسطول في عام 1543 لتطهير أوروبا الأطلسية من القراصنة. وفي عام 1545 أُرسِل إلى الهند بست سفن ليتولّى السلطة هناك. بذل جهوداً كبيرة في تثبيت الحكم البرتغالي في شبه القارة الهنديّة، وحارب الشاه محمود، ملك الغوجارات. واستولى على مدينة بهاروش، وأخضع ملقا.

جلفار في وسط المعاملات التجاريّة والملاحيّة

وفي الرسالة السابقة للملك إشارة إلى رسالة ملك هرمز إليه بخصوص عدّة مسائل يطلب منه التدخّل لحلّها، وهو هنا يأمر دي كاسترو بتنفيذ أوامره في حلّ الإشكالات الإداريّة والملاحيّة، ومن أهمّ هذه المسائل:

أنّ الوزير المسؤول عن جلفار وضواحيها انقطع عن إرسال التقارير إلى نائب الملك في جوا حول سير العمل في المقاطعات التابعة له، وهو هنا يضفي عليه لقب ملك، مع أنّه في البداية سمّاه وزير جلفار.

وفي الرسالة توجيهات واضحة إلى القادة البحريّين بضرورة الحفاظ على السّلم العام في بحر العرب وفي المحيط الهندي، وعدم التعرّض للسفن المبحرة أو الاعتداء عليها مادامت ضمن السلم العام. ويأمره في الوقت نفسه بعدم السماح لقادة الأسطول البرتغالي في هرمز بتعيين وكلاء لهم في البصرة أو في جلفار لأنّ هؤلاء الوكلاء أحدثوا كثيراً من المشاكل في تلك المناطق.

وهنا نجد تلك الإشارات الصريحة إلى جلفار المدينة والميناء والإقليم المفعم بالحركة والنّشاط لدرجة أنّها أثارت اهتمام ملك البرتغال بضرورة التعرّف على مجريات الأمور فيها أوّلاً بأوّل.

والرسالة الثانية بعثها أحد المسؤولين البرتغاليين في لشبونة ويدعى رافائيل لوبو (Rafael Lobo) إلى نائب الملك في الهند بتاريخ 3 فبراير 1546 بخصوص التجارة العابرة لمضيق هرمز. وفيها إشارة جليّة إلى ازدهار تجارة الفلفل والزنجبيل في مدينة جلفار التي أضحتْ مركزاً لإعادة تصدير البهارات إلى البصرة.

وهو ما يفسّر وفرة الفلفل والمنسوجات في البصرة عام 1546. بالإضافة إلى حركة الملاحة التجاريّة في موانئ القطيف والبصرة ومسقط وقلهات. ويطالبه بتشديد الحراسة البحريّة في مياه الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي.

بين البرتغال والقوى الأخرى

وفي رسالة ثالثة مهمّة جدّاً بعثها نائب الملك في الهند إلى الملك فيليب الثالث (Felipe III)‏ ـ (14 أبريل 1578 - 31 مارس 1621) أثناء خضوع البرتغال للتاج الإسباني، تحتوي معلومات في غاية الأهمّيّة حول تأثّر المستعمرات التي كانت تابعة للبرتغال في الهند والخليج العربي بالنّشاطات العسكريّة العثمانيّة والبريطانيّة والفارسيّة التي كانت تعمل على تقويض السلطة البرتغالية في الشرق. وتؤرّخ هذه الرسالة بـــــ13 مايو 1616.

وهي رسالة تحتوي على تفاصيل دقيقة حول الوضع العسكري والملاحي في الخليج والمحيط الهندي إلا أنّه من أهمّ الإشارات فيها ما ورد حول مدينة جلفار التي كانت ترفأ إليها السفن الضخمة المحمّلة بالفلفل وبقيّة البهارات.

وفيها إشارة أخرى إلى قلّة العساكر البرتغاليين ممّا أدّى بقادتهم إلى الاستعانة بغيرهم من أبناء المنطقة للعمل حرّاساً في القلاع والأسطول. وتتضمّن أيضاً إشارة إلى شحّ الموارد الماليّة نتيجة لضعف المراقبة على السفن، واستخلاص الضرائب منها.

 

 

Email