جـذور

التراث والعروض الفنية.. ضرورات الفهم والتناغم

ت + ت - الحجم الطبيعي

أثار حديث أَخَوي مع الفنّان القدير إبراهيم بن راشد بو خليف حول تمثيل الرموز التراثيّة من شخصيّات وشواخص ومعالِم وشواهد شجون هذا المقال نظراً لِما تطرّقنا إليه في حديثنا.

وسأشير إلى حيثيّات الحديث لاحقاً. وهذا الأمر جعلني أقرأ في هذا الميدان الفنّي الخصب، متتبّعاً العلاقة العلميّة بين التراث واستعراضه بالفنون من مسرحيّات ومسلسلات وأفلام على الأقلّ فيما يعرض بالإمارات. خاصّة أنّه في هذه الأيّام أصبح موضة يتعلّق بها كلّ شخص أراد الإبحار بعالَم التراث.

ومن هذا المنطلق وجدتُ أنّ عدداً من القاصّين والروائيين والفنّانين والمسرحيّين ينهلون من مخزون التراث وقصصه لِما تمثّله عناصره من حضور في الهويّة الوطنيّة. ولهذا شاعتْ المهرجانات والأيّام التراثيّة، وانتشر تنظيم عناصر التراث في الاحتفالات، وتخصّص بتنظيم مثل هذه الاحتفالات شركات خاصّة. كما انتبه الفنّانون والمخرِجون للتراث فمثّلوا عناصره في عروضٍ فنّيّة، واستعراضات مسرحيّة، ومسلسلات، وغيرها. ما يدلّ على أنّ التراث ومعالِمه يشكّلان عامل جذب لكتّاب المسلسلات والأفلام، ولكلّ منهم طريقته بالعرض والاستعراض والحوار.

ولكن تظلّ الأمانة العلميّة هي الحَكَم في كلّ ذلك. وممّا لا شكّ فيه فإنّ كتّاب المسلسلات والأفلام والمسرحيّات ومنفذّي ومصمّمي الديكورات ومُعدّي الأزياء ومختاري بيئات التصوير ليسوا مؤرّخين، بل ليس لهم علاقة بالتراث من حيث الأكاديميّة والتخصّص والحرص بل ولا حتى الهواية والهوى.

إلا أنّ مثل هذه المواد الفنّيّة تعرّفنا على مدى قدرتها في نقل المتلقّين والمشاهدين من شرائح المجتمع كافّة، إلى عالَم التراث الفسيح، وتقريبهم من كنهه ومحتواه ومعانيه وآدابه وشواخصه، فيتمكّنون بالتالي من قراءة الروايات والحكايات والأشعار والآداب، من خلال مشاهدتها على خشبة المسرح أو على شاشات التلفاز أو عن طريق زيارات المهرجانات والأيّام التراثيّة. وهي في نظرنا فرصة جيّدة لنقل التراث إلى الأجيال النّاشئة والمعاصرة، وهي في الوقت نفسه تذكير للأجيال السابقة بماضيهم وتراثهم. وهذا من حيث المبدأ وليس من حيث الواقع والمُشاهَد.

عناصر ومعالم

 

توجد علاقة ما بين عناصر التراث ومعالِمه بالفنون بصورة عامّة، ممّا يومئ إلى إمكانيّة ارتباط الإبداع الفنّي بشواخص التراث مما يدلّ على وجود قابليّة في التراث للفنون. على أن يتمكّن كتّاب النّصوص ومعدّو السيناريو من إبقاء النّبض الحيوي فيما ينظرون إليه من أحداث وأخبار وقصص وحكايات وآداب.

وبالتالي عليهم الاختيار من معالِم ومظاهر التراث ما يناسب العرض والجمهور ويتماشى مع الواقع المعيش. على ألّا تكون في الوقت نفسه المادة التراثيّة في ميادين الفنون جامدة، ضيّقة، ساكنة لا حياة فيها. ولكن كثيراً ما يشاع أنّ أكثر الأفلام التاريخيّة أن تنقل إلينا أفكاراً وصُوراً خاطئة عن الحياة في المراحل التاريخيّة التي تتناولها هذه الأفلام.

وبناءً عليه توجد علاقةٌ من نوعٍ ما بين الكاتب والتراث، والمرويّات الشّعبيّة، وبالتالي تقوم عليها مسؤوليّته في اقتباس عناصر وموضوعات من المأثورات الشّعبيّة، وعليه في الآن نفسه امتلاك رؤية فنّيّة خاصّة تعمل على التحكّم في معطيات التراث بشكلٍ إبداعي متجدّد زاخر بالاستلهام والاسترفاد والرؤية الفنّيّة على أن يدرك الكاتب قيمة هذا التراث.

الإبداع الفنّي

وقد جرتْ عادة كتّاب النّصوص المسرحيّة والفنّيّة الأخرى استقراء الواقع المعيش ومعالجته فنّيّاً ودراميّاً، وغالباً ما يندفع أولئك المؤلِّفون نحو التصرّف في معالجة الموضوعات المستوحاة من التراث معالجة درامية، وبالتالي يتجاوزون المرويّ والمحفوظ في الذاكرة الجماعية، مستصحبين للدّلالة على ذلك ببعض الإيحاءات والأبعاد والإشارات حسب ما يرونه تعبيراً عن وجهة نظرهم ورؤاهم الجمالية.

ومع ذلك فربّما يتعرّض التراث لبعض التشويه والمتاجرة وسوء الفهم، كما أصبح مباحاً لكلّ شخص، وأضحى الخوض فيه والإدلاء بالرأي حوله، من مدّعي الثقافة ومحترفي الأحاديث، ومنتسبي الوسط الفنّي. ولهذا من المفترض أن تُقدّم العناصر والشواهد التراثيّة بما يؤكّد أصالة المجتمع، وأنّ استلهام التراث الشّعبيّ يرتكز على التقاليد الأصيلة للمجتمع.

كما يعتمد التراث الشعبي على مستوى المعلومات الجماليّة التي يتطلّبها العمل الفنّي لكي تدرك كنهه الجماهير بمعنى أن يحتوي الإنتاج على عددٍ من العناصر الجماليّة التي يعرفها الأفراد ما ينجم عن هذا استيعاباً سريعاً للرسالة الجماليّة على أن يضمّ الإنتاج إلى جانب هذا كمّيّة من العناصر لنقل المعلومات الجماليّة الجديدة التي تجذب انتباه السامعين والمشاهدين.

اللهجة المحلّيّة

يدور الحديث أحياناً عن اللهجة الإماراتيّة ومدى تطابقها ومدى أصالتها في العمل الفنّي في المسلسلات والمسرحيات الإماراتيّة. ومن هنا يجب الحرص على الأداء الصحيح للنطق والصياغة.

ويأتي ضمن هذا السياق ظهور فِرق الفنون الشّعبيّة في الأعمال الفنّيّة من مسرحيات ومسلسلات، وظهور الفنون الشّعبيّة في الأعمال الفنّيّة في عمومه أمر إيجابي، مع اشتراط أن يكون العمل الفنّي الشّعبي دالّاً على الميراث الشّعبيّ المحلّيّ الموافق للظرف الزماني الذي تشمله المسرحية والمسلسلات.

بالإضافة إلى ضرورة التزام الذائقة الشّعبيّة المتعارف عليها في المجتمع. مع ملاحظة أنّ مثل هذه الفنون بعد أن تنقل إلى المسرح وإلى مواقع التمثيل تخضع للمسرحية والمسلسل فتنفصل بالتالي عن جمهورها المتلقّي لها على الطبيعة المعتادة لمثل هذه الأداءات.

وقد يضطرّ المخرج أو الفنّان إلى إلغاء بعض عناصر العمل الفنّي الأصلي، بل ربما أحياناً لأغلب هذه العناصر حتى يلائم المادّة المعروضة أو الممثّلة فحينها ربما تفقد مثل هذه العروض الفنّيّة بعضاً من القِيم الجماليّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة القائمة عليها.

نماذج وأمثلة

في حديثي مع الفنّان إبراهيم بو خليف، تطرّقنا إلى استعمال رموز معيّنة في التمثيل المسرحي والتلفزيوني، وتحديداً: «المطوّع»، و«النوخذة»، وألمح إلى أنّ هاتين الشخصيّتين متجذّرتان في المجتمع المحلّي بقدر تجذّر اللهجة والعادات والتقاليد وغيرها. وكان لكلّ منهما مكانته بين الأهالي.

والمُلاحظ أنّه في الأعمال الفنّيّة الحديثة قُدّمتا بطريقة هزليّة، ضعيفة، مهزوزة، تخالف تماماً ما كانتا عليه سابقاً. وحين حديثنا معاً استحضرنا نماذج من هؤلاء المطاوعة والنّواخذة، واتّفقنا على أنّ النماذج التي استحضرناها تخالف تماماً ما يقدّم للأجيال على الشاشة، وعلى خشبة المسرح.

ومن غرائب العروض أنّ صراعاً يدور بين النّواخذة في مسابقة مناطحة الثيران، مع أنّ النواخذة حين تجري هذه المسابقة كانوا على سفن الغوص في آخر الموسم، أو على السفن السفّارة. ومناطحة الثيران كانت تتمّ في آخر موسم القيظ، وبعد جداد النّخيل، واستعداد الأهالي للعودة إلى المدن بعد انقضاء الموسم.

ولم تعد الحاجة ماسّة للسقاية باليازرة لاقتراب موسم الأمطار. بالإضافة إلى أنّ مثل هذه المسابقات كانت تجري في أماكن محدودة من الإمارات. وكان الأهالي يحضرون المناطحة بهدف الفرجة والاستمتاع.

ومن الأمثلة كذلك: إقامة صلاة العيد في المسجد، وهي لم تكن تجري في السابق، نظراً لوجود أماكن لصلاة العيد في خارج المساجد. وكانت تلك اللقطة في مسجد صغير في الجزيرة الحمراء بإمارة رأس الخيمة، وهو في الأصل مسجد لا يسع أهالي البلدة، ويوجد في الأصل مصلّى للعيد في البلدة القديمة نفسها، كان من الأَوْلى استعماله.

ولم تكن أبواب البيوت مثل أبواب الدكاكين بل لها تصميمها الخاص الذي لم يظهر في بعض المسلسلات. ومن الغرائب أنّ التمثيل يجري حسب ما يُزعَم في المدن، فإذا البيت مبنيّ من الجصّ والحجر المرجاني، وتتوسّطه مَنامة أو السِّيَم، وهو لا يحدث أبداً إلا في بيوت المقيظ حيث يبني الأهالي بيوتهم من سعف النّخيل، وتتوسّط المَنامة تلك البيوت.

وحين يتمّ تمثيل الحياة في المدن يخطئ مصمّمو الديكورات بوضع شجرات نخيل في البلدة. بينما النّخيل لا يوجد إلا في أماكن المقيظ. وفي أحد المسلسلات يظهر بائع سيّارات تمثّل العقد الخامس أو العقد السادس من القرن العشرين، وهو يمسك بيده جِرزاً (يرز).

وهذا من جهل مُعدّ الأزياء إذ إنّ الجرز محدود الاستعمال في بعض الأماكن، ولا يحمله أهل الساحل، والأدهى والأمرّ أنّه يبيع سيّارات بمعنى أنّ مثل هذه المعارض عادة ما تكون قديماً في مدن مثل دبي.

فما يُعرض في تلك المسلسلات لا يمتّ في كثيرٍ من النّواحي إلى المجتمع الإماراتي لا من حيث التصميم والبناء، ولا من حيث الأداء والتنفيذ. فيا ليت كتّاب هذه الأعمال ينتبهوا إلى الواقع الصحيح للمجتمع المحلّي، وأخذ تراثه بمحمل الجدّ. وحين الحاجة لأماكن تراثيّة للتصوير فأمامهم العديد من الأماكن التراثية المهيّأة.

عناصر

تعتمد تسمية العمل الفنّي على المادّة الخام التي يتناولها المؤلِّف، ولهذا فإنّنا إذا رأينا عملاً فنّيّاً يحتوي على عناصر ومكنونات التراث، ويتحدّث عنهما وفق صياغة قضيّة إنسانيّة لا ترتبط بالضرورة بالمادّة التراثيّة فإنّه يصنّف حينها وفق الشّكل الفنّيّ. ومن المفروض أن يتمّ توظيف التراث بما لا يخلّ بعناصره الرئيسة.

ولا يمنع من الإضافة إليها، وإثراء معانيها. ولهذا شاعت إعلاميّاً مصطلحات مثل: «الأعمال التراثية»، و«مسلسل أو عمل فنّي تراثي إماراتي»، و«المسلسل التراثي الكوميدي»، و«كوميديا مستلهمة من التراث الإماراتي» و«يعود بنا المسلسل إلى الأجواء التراثية التي ميّزت الحياة في الإمارات العربية قبل ظهور النفط وانتشار مظاهر التمدّن الحديثة».

 

Email