شعم وخورفكان في نقش حميري.. حقيقة أم افتراض؟ 2

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ذكرنا في الحلقة السابقة أن نقش ينبق كان يحكي حدثاً تاريخياً على مستوى اليمن، ثم قام الأستاذ حمود بن محمد بن جعفر السقاف بإعادة قراءته وانتهى إلى أنه يتحدث عن حادثة شملتْ جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية.. وفي إشارتنا في الحلقة الأولى إلى هذا النقش والتحليلات الخاصة به، منها ذكر الملك الساساني..

أما الإشارة إلى أن فارس في عهد الملك قباذ (487 - 531م) كانت تمر باضطراب جعلها في شغل عن الولايات خارجها، هي مقولة لا تصح بعمومها، لأن الدولة الساسانية كانت دولة قوية، ورغم ما مرت به من أزمات في عهد الملك قباذ، فإنها لم تكن متهالكة ولا في طريقها إلى الانهيار، وقد جدد لها كسرى أنوشروان، خليفة قباذ نضارتها وقوتها.

بل وحتى في عهد قباذ كانت تقف بوجه التحركات والتحرشات البيزنطية، مدعوماً في ذلك من حلفائه العرب المناذرة.

وما جرى من إشكالات في بداية عهده تم القضاء عليها، ولم يحل عام 510م، إلا وقباذ كان ممسكاً بالحكم. ومن جهة أخرى فإن هذا الملك مر في حياته بظروف قاسية إلا أنه ظل ثابتاً، وفارق الحياة وهو على رأس الحكم، وقد وصفه المؤرخ آرثر كريستينسن بأنه: «كان بلا ريب من أهم الملوك الساسانيين».

حدث داخلي

من الغريب أن هذا النقش الذي بنى عليه الأستاذ السقاف افتراضه ليس له علاقة بأي حملة عسكرية على المنطقة، بل يتحدث عن حدث خاص بالسميفع أشوع وإخوته وأبناء عمومته وأبناء أخيه وأتباعه وزيارته لضواحي الشِّحر.

وحتى كريستين روبان نفسه في بحوثه اللاحقة، على الأقل التي اطلعتُ عليها، (انظر مثلاً: DU NOUVEAU SUR LES YAZ’ANIDES) لم يغير قناعاته التي حلل وترجم فيها نقش ينبق.

وقد درس روبان نقشاً آخر للسميفع أشوع، ولاحظتُ أنه يجري حسب صياغاته السابقة في كتاباته الأخرى. ويكاد يكرر المواضع الجغرافية نفسها. ونود الإشارة هنا إلى أن مثل هذه الكتابات تتعلق بالأسرة «اليزنية» التي كان السميفع أشوع أحد روادها.

النصرة والواقع

من غرائب الأمور القول إن هذه القوات الجنوبية قد أتتْ إلى المنطقة نصرة لإخوانهم الأزد، إذ ما هي نوعية هذه الأخوة التي أبعدتْ السميفع أشوع عن أقرب الناس له، وهو الملك ذو نواس، وجعلتْه قريباً من أولئك الذين هاجروا منذ مئات السنين.

خاصة إذا عرفنا أن السميفع أشوع نفسه لم ينصر ذا نواس حين هاجمه الأحباش، ولم يشارك في حروب ذي نواس ضد الحملة الحبشية على اليمن، وهذا ما أهله أن يختاره الأحباش ملكاً على حمير تحت السيادة الحبشية.

وفي اعتقادي أن الملك الحميري لا يجرؤ على الابتعاد عن بلاده كل هذه المسافة، ويدخل في صراع مسلح مع الفرس. بل إنه لو افترضنا قيامه بحملة عسكرية على موانئ المنطقة، لجرى ذلك ضمن طلب الإمبراطور البيزنطي، لا نصرة لأحد من الأزد. ومع ذلك الطلب الإمبراطوري إلا أنه لم يحرك ساكناً، بل إن ملك الأحباش نفسه لم يوجه أي حملة تجاه فارس.

وفي الوقت نفسه كان المناذرة يبسطون نفوذهم السياسي والإداري على أجزاء من المنطقة، وكانوا على أتم الاستعداد لمجابهة التحركات المهددة لهم. ثم متى حدثتْ ثورة الأزد ضد الساسانيين حتى يطلبوا النجدة من الحميريين؟ إذ من المعلوم أن آل الجلندي كانوا حريصين على العلاقات السلمية والمتوائمة مع الساسانيين.

الخليج والملاحة

أما القول بأن الوجود الفارسي في المنطقة قد وجه ضربة قاصمة لاقتصادها، وحرم أهلها من ممارسة التجارة والملاحة والأسفار، فهو قول غير صحيح. إذ يُذكر في هذا المضمار أن الأزد، وخلال وجود الملك أردشير الأول (224/‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏226 – 241م) كانوا ملاحين بشِحر عمان قبل الإسلام بستمئة سنة. وإذا أبعدنا السنوات الستمئة فإن مثل هذا القول ليس له نصيب مِن القبول، خاصة أن الأزد كانوا على علاقة بالبحر والملاحة في أعالي البحار نظراً لطول السواحل والمتاجرة مع العالَم المحيط.

وأما العلاقة بين أهالي الخليج وملوكهم من آل الجلندي مع الدولة الفارسية، فقد كانت مُتبادلة المصالح بين الطرفيْن، وكان الأمر قد استقر بينهما على تجنب الاعتداء والتوافق معهم على تقاسم النفوذ بين الفرس والعرب على السواحل والمراكز الحيوية في المنطقة، وكان العرب مسيطرين على المناطق الداخلية.

كما حدث تفاهم بين الفريقين، لفترة من الزمن لم يكن بينهما عداء واضح يقلق كلاً منهما الآخر. وظل هذا التفاهم الرسمي بين العرب والفرس محافَظاً عليه من قِبل الطرفين حتى مجيء الإسلام.

وبناء على ذلك فإنه كان للعرب في المنطقة حريتهم الكاملة في مناطقهم، وكان مقرهم الشمالي عند تؤام، وكانت دبا ميناءهم الرئيس، وتبعية دبا للسلطة العربية، تشير إلى أن العرب في المنطقة لم يكونوا معزولين عن العالم الخارجي.

ويبدو أن أسرة الجلندي بسطتْ نفوذها على أجزاء كبيرة من الداخل إضافة إلى مراكز محددة على السواحل. وفي الوقت نفسه كانت منطقة الخليج العربي تزخر بالبلدات والمرافئ التي كانت تعد مراكز حاضرية ومدنية وحضرية في المنطقة، تنطلق مِنها النشاطات الاقتصادية وتقوم فيها التحركات الاجتماعية وتنشأ فيها الإدارات السياسية.

حياة اقتصادية

كما تمتعت منطقة الخليج بأسواق كانت كثيرة النشاط والحركة، وتميزتْ الأسواق الموجودة في المدن الساحلية بوجود النازلين والزائرين الأجانب وتأثر أهلها باختلاطهم بهم. وهي بصورة عامة تعد معلماً مهماً مِن معالم الحياة الاقتصادية في منطقة الخليج قبل الإسلام.

وكانت في الوقت نفسه ميداناً للتواصل الثقافي والتعارف الديني، كما ارتبطتْ بعض هذه الأسواق بطرق تجارية نشطة. ومِن المعروف أن مِثل هذه الأسواق هي عبارة عن معارض تجارية ترد إليها السلع مِن كل الجهات فيغتنم روادها مِن العرب والأعاجم وجود هذه البضائع فيشترون ويتباهون باقتناء السلع الفاخرة المستوردة.

وكانت الخليج العربي (موانئ البحرين وعمان والإمارات اليوم) منفذاً للسلع الهندية والفارسية والصينية، وسِلع الإقليمين نفسهما، كما اشتهرا بالعديد من المنتجات الزراعية والمعدنية والمنسوجات. وازدهرا زراعياً، ووفرة المياه. وكانت منطقة الخليج العربي مندرجة ضمن شبكة مواصلات عالمية، وأبحرتْ في مياهها العديد مِن السفن القادمة مِن أماكن بعيدة أو المتنقلة بين موانئ ومرافئ وجزر المنطقة.

موانئ

وكان الخليج العربي ممراً مناسباً للسلع والبضائع الآسيوية والهندية إلى سواحل البحر المتوسط. ومِن مظاهر ازدهار التجارة في الخليج العربي هو تواصل المنطقة بالمناطق المحيطة، وكان عدد مِن الموانئ الخارجية على صلة بالخليج، ومنها ميناء عدولي على البحر الأحمر الذي كان يصل إليه التجار الرومان وغيرهم.

مِنه كانت السفن تتجه نحو جنوب الهند ومنطقة الخليج العربي. وإن تقاسم الفرس النفوذ على بحار المنطقة مع العرب لا يقلل مِن أهمية المنطقة كونها: «طريق البحر»، ومعبر المواصلات بين الغرب والشرق لعصور عدة وحقب متوالية.

ولا يصح القول إن منطقة الخليج العربي فَقَدتْ كثيراً من نشاطها البحري وصلاتها بالشرق خلال وجود الساسانيين، نظراً لتشجيع خصومهم البيزنطيين للتجارة عبر البحر الأحمر. بل ونجد مِن المناسب القول إنه كان مِن نتائج الصراع الساساني البيزنطي ازدياد التجارة في الخليج العربي وبحر العرب في مقابل صعوبة استعمال الطرق البرية التي كانتْ غير آمنة.

صراع

وقد ارتكزتْ السياسة الدولية في القرون الثلاثة السابقة للإسلام على التنافس بين القوتين العظميين فارس وبيزنطة. وكان الهدف الرئيس للسياسة البيزنطية في الشرق الأدنى هو الرغبة في الاستيلاء على المنطقة مِن البحر المتوسط إلى المحيط الهندي لتوفير مبالغ طائلة مِن الضرائب للإمبراطورية وضمان مرور التجارة الشرقية عبر أراضيهم، ما يجعل التجارة الشرقية مرتهنة لهم.

وفي مقابل ذلك فإنه كان هدف السياسة الساسانية هو الوصول إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط.

ونتيجة للصراع على مناطق النفوذ وأعالي البحار بين الساسانيين والبيزنطيين حاول الساسانيون في بداية أمرهم فرض سيطرتهم على الملاحة البحرية في الخليج العربي وبحر العرب والجزء الشرقي مِن المحيط الهندي، بينما سعى البيزنطيون ليكون البحر الأحمر وخليج عدن والجزء الغربي مِن المحيط الهندي، أيْ باتجاه الساحل الشرقي الأفريقي، تحت نفوذهم.

خلاصة

إن إعادة قراءة نقش ينبق من قبل الأستاذ حمود بن محمد بن جعفر السقاف، نقلت النقش من كونه يتحدث عن حدث محلي في جنوب شبه الجزيرة العربية إلى كونه يتحدث عن حدث أكبر اتساعاً وأكثر شمولية من الجانب الجغرافي. ويحمل النص أكثر مما يحتمل. والأفضل في مثل هذه المسائل التاريخية الالتزام بمحددات النقش ومراميه العسكرية والسياسية حسب الظروف المحيطة، وحسب الحقبة الزمنية المناسبة.

 

 

Email