شعم وخورفكان في نقش حميري قديم..حقيقة أم افتراض؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

علينا أن نشير إلى أنّ القراءة الجديدة تختلف بعض الشيء عن النّشر الأوّلي الذي عرضه روبان وبافقيه. ولابدّ من الإشارة إلى أنّ هذا النّقش مدوّن بخطّ المسند أو السبئي، ويتكوّن من 12 سطراً، وفي نصّه الأصلي توجد تفلّمات وتكسّرات وهذا ما جعل الأستاذ السّقّاف يعيد قراءة النّصّ في محاولة منه لإكمال النّقش في فقراته المفقودة.

وهو حسب رأيه أنّ الأمير أو الملك السّميفع أشوع وعدداً من أتباعه من القادة والقبائل من سقطرى وظفار وغيرهما، سطّروا هذا النّقش عندما عادوا من رؤوس الجبال، بعد أن أغاروا على ميناءَي شعم وخورفكان. واصطادوا أثناء حملتهم العسكريّة 127 من الحمير الوحشيّة. وأُرِّخ النّص بعام 625 حسب التقويم الحميري، بما يوافق عام 510 ميلادي.

النّجدة الأَخَويّة

ذكرت الدكتورة أسمهان أن القوّات الحميريّة المتحالفة بقيادة السّميفع أشوع، شنّتْ حملة موفّقة في منطقة رؤوس الجبال (شبه جزيرة مسندم) ضدّ قوّات الملك الفارسي قباذ. وتلمح إلى أنه شارك في هذه الحملة عدد من القبائل اليمنيّة التي قدِمت من أنحاء متفرّقة من بلاد الجنوب. ثمّ أوردتْ أسباباً لهذه الحملة، نوجزها فيما يلي:

(1) نصرة لقبيلة الأزد المقيمة في إقليم عمان، تلك القبيلة في الأصل قد هاجرتْ من بلاد اليمن.

(2) أنه هجوم انتقامي بسبب تعرّض السفن التجاريّة اليمنيّة لهجمات الفرس.

(3) أنّ مَن شارك في الحملة من قبائل اليمن هم من مناطق ساحليّة، ما يعني شعورهم بخطورة السيطرة الفارسيّة على أعالي البحار.

(4) أن سيطرة الفرس على السواحل آنذاك سبّبت كساداً للاقتصاد في المنطقة، استدعى الاستنجاد بإخوة الدّم والقرابة.

خورفكان

ثم تشير أسمهان إلى أهمية ميناء خورفكان على اعتبار أنه مطمع للفرس حتى القرن الثاني عشر الهجري. وتحديداً ما جرى عام 1149هـ، حين رست القوّات الفارسيّة في ميناء خورفكان لمهاجمة أهلها. وبطبيعة الحال فإنّ الأستاذة لم تذكر أيّ أمثلة على حدوث غزو فارسي من خلال ميناء خورفكان منذ تلك الحادثة في عام 510م. وكأنّ تلك السنين الطويلة جدّاً لم تتكرّر فيها الحادثة سوى مرّتين.

وهي بالتالي تعتبرها حدثاً رئيساً في التاريخ. من دون الإشارة إلى أنّ اسم خورفكان لم يظهر إلا مع الرحّالة ومع الجغرافيّين المسلمين في العصر الوسيط وما بعده. وهي هنا تستشهد فقط بميناء خورفكّان دون الميناء الآخر المدوّن في النّص حسب قراءة السّقّاف، وهو ميناء شعم الذي لم يظهر في النّصوص التاريخيّة إلا في العصر الحديث ما يشي بحداثة ظهوره تاريخيّاً.

النّشر الأصليّ والمكان الفعليّ

من الغريب أنّ ناشِرَي النّقش الأصليّ لم يتعرّضا لهذا الفيلم في النّص الذي اجتهد السّقّاف في إكماله وإعادة قراءته. ويُفهم من ترجمة النّاشريْن الأوّليْن للنّصّ أنّهما لم يشيرا إلى كلّ هذه الأحداث الكبيرة التي ألمح إليها السّقّاف، ونقلتْها عنه الدكتورة الفاضلة التي افترضتْ أنّ لفظة: «أ س ع ن» تشير إلى شبه جزيرة مسندم، ولكن الأستاذيْن روبان وبافقيه لم يبعداه عن منطقة الشِّحر في حضرموت. ويوجد في نهاية السطر السابع وبداية الثامن بعض التفلّمات. أكملها السّقّفاب باسمَي شعم وخورفكّان.

بل ويجزم الدكتور بافقيه في بحث آخر له (NEW LIGHT ON THE YAZANITE DYNASTY) أنّه يشير إلى موضع قريب جدّاً من الشِّحر يُعرف بـ«الأسعى» يقع إلى الشرق من هذه البلدة العريقة. وفي تلك المنطقة جرى صيد حُمُر الوحش التي ذكرها النّقش. وهذا ما أيّده كلّ من Axelle Rougeulle و Anne Benoist في بحثهما المشترك: Notes on Pre- & Early Islamic Harbours of Ḥaḍramawt (Yemen) من كون موقع الأسعى بالقرب من الشِّحر.

قراءة متأنّية

كما ذكرتُ سابقاً فإنّ هذه القراءة قد أثارتْ فيّ الفضول رغبة منّي في تتبّع الحقيقة. وقد اضطرّني ذلك إلى قراءة العديد من الكتب والمقالات والبحوث في هذا الحدث الفريد الذي أوصل تلك النّجدة المُفْتَرضَة إلى شبه جزيرة مسندم والإغارة على شعم وخورفكّان.

وفي هذا الصدد قرأتُ تعليقاً رائداً لأستاذنا الكبير ريكس سميث على ما سمّاه: «تحرير أو إعادة تحرير أو إعادة قراءة» للنّصوص والنّقوش التاريخيّة مع عدم الحذر والحيطة ومعرفة الأوضاع السّياسيّة والعسكريّة المحيطة بالحدث.

وعادة ما تجري مثل هذه التعديلات على أسماء القبائل والمواضع. ما يؤدّي إلى نقل النّصّ إلى مصافّ الأهميّة التاريخيّة القصوى. وبناء على ما ذكره أستاذنا سميث، فإنّ نصّ ينبق أعيدتْ قراءته، ونقله من حدث جرى في الإقليم اليمني إلى كونه حدثاً شاملاً وعامّاً.

الحدث والحادثة

وحين الحديث حول الحدث والحادثة والفترة، فإننا نرى أن المؤرّخ البيزنطي پروكوپيوس (توفّي نحو عام 560م)، في كتابه تاريخ الحروب يشير إلى قيام الإمبراطور البيزنطي بإيفاد سفارة برئاسة رجل أرستقراطي بيزنطي يدعى يوليان (جوليان) نحو عام 531م.

إلى ملك أكسوم (الحبشة) وإلى السّميفع أشوع ملك حِميَر الذي عُيّن ملكاً على اليمن بعد احتلال الأحباش لها. يطلب مِنهما إعلان الحرب على فارس، وقطْع العلاقات التجارية معهم. ولما التقى المندوب البيزنطي بالنّجاشي استقبله استقبالاً حسناً، وبلّغه رسالة الإمبراطور ورغبته.

وعاد محمّلاً بالوعود والاستعداد لتنفيذ رغبة الإمبراطور. وطلب مِن ملك حمير خاصّة أن يوافق على تعيين شخص يدعى قيس (Kaisos - Caisus) سيّداً (Phylarch) على قبيلة معد (Maddeni). وأنّ يجهّز جيشاً كبيراً يشترك مع قبيلة معد في غزو أرض فارس. ولكن في الواقع لم يتم شيء، ولم ينجز الملكان وعودهما فلم يَغْزُوَا فارس ولم يعيّن السّميفع أشوع قيساً سيّداً على معد حتّى قُتل السّميفع.

نظراً للصّعوبات الجمّة التي تكتنف المهمّة العسكريّة وتطلّبها لِموارد ماليّة وبشريّة هائلة، إضافة إلى وعورة الطّريق البرّي وصعوبة اجتيازه. وإدراك الأحباش والحميريّين أنّ إثارة الفرس بهذه الطريقة لها عواقب وخيمة خاصّة في ظروف انشغال البيزنطيّين في أوربا وآسيا الصغرى.

نتيجة

إذن من خلال هذا النّصّ الفريد يتضح لنا أنّ السميفع أشوع لم يقم بمثل هذه الحملة، ويبدو أنّ البيزنطيّين لم يفلحوا إلا في تعيين قيس ملكاً رسميّاً على معد، إلا أنّ عداءً شديداً نشب بين قيس والسّميفع جعل البيزنطيّين ينقلون عمليّات قيس إلى شمالي غرب الحجاز وجنوبي فلسطين، كما نقلوا أيضاً أتباعه معه، ليعمل هناك ضمن الإطار العربي الشمالي، وتحت الإشراف البيزنطي المباشر.

إلا أنّه من المؤكّد أنّ الحملة على فارس مِن جهة اليمن لم تحدث لوفاة الملك الفارسي قباذ وعقد صلح بين بيزنطة وفارس، إضافة إلى مقتل السّميفع أشوع. إضافة إلى أنّ موفد الإمبراطور قد أتى إلى الحبشة واليمن في عام 531م، وهو زمن متأخّر عن تاريخ النّقش، وهو عام 510م. ما يوحي بأنّ الاهتمام البيزنطي بالإضرار بفارس قد بلغ مداه في تلك السّنة.

حرب

ومن الجدير بالذِّكر أنّ السّميفع أشوع دخل في حروب أهليّة في أواخر عهد ذي نواس، ولم يقف مناصراً له ضدّ الأحباش وهذا ما أهّله أن يتولّى حكم اليمن من قِبل الأحباش، ولا يمنع أنّ هذا النقش يتحدّث عن حملات داخليّة قام بها السّميفع أشوع مع حلفائه ضدّ المعارضين له.

حين نشرت الزميلة الدكتورة أسمهان سعيد الجرو كتابها «مصادر تاريخ عمان القديم (دراسة تحليلية)» عام 2006، لفتَ نظري إيرادها لنقش حميريّ قديم دوّنه كلّ من العالِميْن الفرنسي كريستين روبان (Christian Robin)، واليمني محمد بن عبد القادر بافقيه (M. A. Bafaqih) ضمن 49 نقشاً من شِعب ينبق، أحد روافد وادي عمّاقين بشبوة عاصمة دولة حضرموت (Inscriptions inédites de Yanbuq, Raydan, 2 (1979), pp. 15-76)، وهذا البحث مكتوب باللغة الفرنسيّة.

ثمّ استرسلت الدكتورة أسمهان في الحديث عن هذا النّقش الفريد بين صفحتَي 96 و101 من كتابها آنف الذِّكر.

ولها جزيل الشّكر لتزويدي بنسخة إلكترونيّة من بحث روبان وبافقيه. وقد ضمّنتْ حديثها ما ذكره الأستاذ حمود بن محمد بن جعفر السّقّاف في مقالة له بعنوان: «غارة يزنيّة على شعم وخورفكان في مطلع القرن السادس الميلادي: عودة إلى النّقش: بافقيه - روبان / ينبق 47» الذي نشره في صحيفة «14 أكتوبر» بعدن في 15 يوليو 2001.

وقد ألمحتْ الدكتورة أنّ الأستاذ السّقّاف قد أعاد نشر النّقش، بقراءة جديدة، ودراسة جديدة كذلك، وفي الوقت نفسه قدّم تحليلاً جديداً لبعض ألفاظه. وقبل مناقشة تحليل وقراءة السّقّاف سوف نستعرض بإيجاز رأيه الجديد.

شعم

من المحتمل أنّ المقصود بشعم ميناء جلفار الشّهير الذي لا يبعد كثيراً عن قرية شعم الحاليّة. ولكن لِمَ لم يشر النّقش صراحة إلى جلفار. ومن الجدير بالذِّكر أنّ اسم شعم اسم حديث نسبيّاً، ولا يتوافق ظهوره مع ما أثبته الأستاذ السّقّاف.

Email