متحف راشد الخضر.. بيت صغير يضاهي مؤسسة ثقافية كبرى

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الشاعر الكبير راشد الخضر الذي له مكانة كبيرة في قلوب أهل الإمارات، تم تحويل بيته في إمارة عجمان إلى متحفٍ شخصي، وعلينا أن نشير إلى أن المتاحف الشخصية للمبدعين أهم مكان للحفاظ على التراث، وعلى سلامة الفكرة والمعنى، فأصبح (متحف بيت راشد الخضر) بمساحته الصغيرة قيمة بل بمثابة مؤسسة ثقافية للجمهور، لاحتفاظها بأشيائه كوثائق.

 يعرض المتحف بتقنية متقدمة وسهلة، سيرته وخطاباته الشعرية، التي وضح فيها كل مفاهيمه سواء بالنبطية أو الفصيحة، مع ألغازه الشهيرة المرتبطة بالأرقام والحروف والنجوم، بالإضافة إلى عرض القطع الخاصة به، ليصبح بيته أبعد من مجرد توفير مساحة، أو مكان، أو عقار... لأنه باتَ مكاناً للجميع، يشاهد فيه الزائر معروضات للراحل، والأهم قصائده التي صنفت أفكاره الاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية والتربوية والأدبية، وكل القصائد المتميزة التي منحته لقب سيد الشعراء. 

يتم

ولد الشاعر عام 1905م، في إمارة عجمان، وفي فريج الميان، والميان يعني الوسط، أي في (الحي الوسط في عجمان)، كان والده يعمل في ظفار، وتوفي هناك خلال إحدى رحلاته، فعاش مع والدته التي ألحقت طفولته بالكُتّاب، فكان يصطحب في طريقه فتاة صغيرة تُدعى علياء، من منزلها إلى الكُتّاب للتلاوة، ليعتاد السير معها كل صباح، حتى أتى اليوم الذي قالت له والدتها، بأنها تزوجت ولن تأتي. 

لتبدأ رحلة الشاعر اليتيم مع الأعمال، ويمتد سفره من أجل الرزق إلى مدن عديدة، مثل البحرين، والدمام، التي عمل فيها كأمين للمستودع، كما عمل كاتباً مع تاجر لفترة وجيزة، وله أسفار إلى مدن عديدة مثل الكويت وسقطرى واليمن، وهكذا يتدرج المتحف في سيرته وتنقلاته حتى عام 1950م، حيث حط راشد الخضر رحاله في دبي، مستأجراً فيها متجراً صغيراً في شارع نايف، استخدمه كمحل للخياطة، وبالتحديد في خياطة «البشت» العباءة الرجالية، حتى تحسن الوضع المالي للخضر بشكل كبير. 

 في عام 1970م، أقام الخضر في عجمان بمنزل بسيط، يقع على بُعد أمتار قليلة من مقبرة عجمان، وكان زائراً لدبي باستمرار، ففي عام 1975م، وحين تم افتتاح نفق الشندغة الذي يمر أسفل الخور، ورأى كيف ربط هذا النفق بين الأحياء (الراس وديرة والشندغة) معجباً بهذا الصرح، ليكتب قصيدة بمناسبة الحدث. 

أما وفاته فكانت في عام 1980م، ليتعرض الخضر إلى مرض مفاجئ، وإثره، تم نقله إلى مستشفى القاسمي في الشارقة، وتوفي فيه ليتم نقل جثته إلى عجمان ويدفن فيها. وكانت صدمة للشغوفين بشعره، ليولي أصدقاؤه اهتماماً لتجميع قصائده المتناثرة والحفاظ عليها في دواوين شعرية، فصدر له ديوان «خدلج» وديوان «أنغام» وديوان «سفرجل». 

ريادة

يوضح المتحف، علاقة الشاعر بالشعراء، والمجاراة الشعرية بينهم وكيف امتازت بالقوة والتميز، فكان الأبرز في فن الارتجال، مع بلاغة واختيار المعاني والألفاظ وبراعة الأسلوب، الأمر الذي ساعد على تعزيز مكانته الشعرية، وانتشار أشعاره في الإمارات والخليج العربي، في الوقت الذي لم يكن في الإمارات شعراء يتقنون الشعر الفصيح والنبطي معاً، وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين، ليغني له أشهر مطربي الخليج.

كما اشتهرت قصائده بالحكمة والخيال الواسع، والمعاني العميقة التي تتضمنها، فكان يتعين على المرء قراءة شعره مرات، ليتمكن من إدراك المعاني المقصودة، ومع ذلك نال الشاعر إعجاباً كبيراً من الناس بشعره. 

وفي البيت المتحف غرفة نومه التي يتم فيها عرض سريره الخاص، و(سحارة) أي صندوق معدني فيه ملابسه وأمتعته، وبعض أدواته وأغراضه البسيطة، فيشعر الزائر كيف كان بسيطاً ومتواضعاً لم يمتلك من المتاع الكثير، خاصة أن غرفته فيها فراش واحد، وبساط وحيد، وصديري معلق على الجدار (ثوب يغطي الصدر) كان يرتديه دائماً في حله وترحاله، ومرآة صغيرة مع مذياع صغير وزهيد...

وعلى الرغم من بساطة حياته، لكنه كان غنياً في الأدب ونابغاً في الشعر، نشأ وترعرع بين جنبات رجال العلم والمعرفة، وخاض تجربة الشعر مدة تجاوزت النصف قرن، قصائده فيها من المهارة التي جعلته من أبرز الشعراء في الإمارات، فسمى بسيد الشعراء، ولأن الاعتزاز جزء من هيبة الشاعر العربي، قال يوماً معتزاً بنفسه: 

أنا ابن سالم ما مَرَّ الهَوى سَحَرَا إلا ونادى أهلا راشد الخَضَرا 

إن قمتُ قامَ الهوى يهتزُ من طربٍ وإن جلستُ فإني سيّد الشُعرا 

أمثال

مما يلفت الانتباه أن الكثير من أبيات الشاعر راشد الخضر ذهبت أمثالاً، بل إنها مشهورة ومتداولة في المجتمع الإماراتي المحلي، مثل:

 «من ضوي الاكرام ما حاتا العشى»، والمعنى بأن من يزور الكريم، فلن يتركهم، بل يحسن ضيافتهم، وبالتالي لن يقلق الضيف على عشائه.

وثمة عرض في المتحف لخط يده الأصلي، كاتباً قصيدة من أربعة أبيات، دون تعديل منه، والمعروف أنه كان يحمل الورق والقلم دائماً معه، فإن كان جليساً بمجلس، وأتته حالة الكتابة المباغتة، ينغمس فجأة في كتابة الشعر، ولا يجيب نداء من حوله، من شدة انغماسه في النظم، وكأنه في عالم خاص به، وبمنعزل عمّن حوله. 

من أشهر أبياته المغناة من المطرب الكويتي الراحل عبدالمحسن المهنا: 

سفرجل خدك اللي كالسفرجل سفر بدر وسفر شمس وسفرجل

تفضل بنعبر عبرة سهالــــــة في ميلٍ بالغلس قبـل السفر جــل. 

وقد قال يوماً قبل رحيله، عن مناسبة هذه القصيدة إنه قالها بعد أن شاهد سفينة قادمة إلى عجمان تحمل عائلات عربية، لتنزل بينهم فتاة رآها من بعيد مع أهلها قادمين من الجزيرة العربية «قيس»، المعروفة اليوم بـ«كيش» في الخليج العربي، قائلاً فيها هذه الأبيات الملهمة. 

كوكب لامع 

ويقول الباحث والمستشار علي محمد المطروشي: المرحوم الشاعر راشد بن سالم الخضر السويدي كوكب لامع في سماء شعراء الإمارات، ليس في القرن العشرين الذي عاش فيه فحسب، بل على مر التاريخ الأدبي للإمارات، وتجاوزت شهرته الأقطار العربية، لتميزه بجودة قريحته وعذوبة تعبيره وغنى قاموسه بالمفردات، إضافة إلى دقة تصويره ورقي شعره، من الغزل والمديح والهجاء، ونصيب الهجاء هو الأقل.

مرت عليه ظروف صعبة جداً منذ الصغر، حيث فقدان والده ثم والدته، ثم أخيه الكبير، ثم مربيه وهو ابن عم والدته، فاغترب للعمل، إلى أن وافاه الأجل دون زواج ودون ذرية، فجمع قصائده المرحوم الأديب حمد بو شهاب، أما الديوان الأكمل فصدر من أكاديمية الشعر في أبوظبي، برئاسة الباحث والأديب سلطان العميمي، حيث عثر على قصائد كاملة ومجهولة ومفقودة، ثم صدر له ديوان «خجل الحرير» مأخوذ من أبيات شعره: 

خجلَ الحريرُ مِنَ الحريرِ وأتْرَفَا والوردُ من وجَنَاتِهَا لا يُعرفا

تقدير

كل من يزور البيت المتحف يجد من الباب الخارجي، كُتِبَ البيت الشهير له، والذي تغنى به أهل الإمارات طويلاً:

هود يا اهل الباب المبوّب يوم تم الوعد ييناكم

وكلمة هود، بلهجة الإمارات تقابلها دستور في دول أخرى، وتنطق بصوت عال عند الباب كنوع من الاستئذان حتى يقول له صاحب البيت «هدى» أي تفضل، أما المبوب، فهو اسم المفعول من بَوّبَ ومصدره باب، إلى الشطر الثاني من البيت: يوم تم الوعد، أي أتى الوعد، ييناكم (جيناكم) من جاء. 

ويظل التقدير الفني المادي الأجمل هو المجسم البرونزي للشاعر في مدخل المتحف، بغترته وعقاله وابتسامته ونظرته الحسيّة والفَطِنَة إذ إن المنحوت هو من توقيع النحات «جورجيادس ستافروس» من جنوب أفريقيا، وذلك من خلال الاستديو الخاص به، في مدينة «كيب تاون» الغربية، فقد مرّ بمراحل عديدة أثناء النحت، حتى وصلت المنحوتة بهذا الشكل رائع الإتقان.

Email