تبادل الرسائل مع مي زيادة طوال 20 عاماً دون أن يلتقيا

جبران خليل جبران (2-2).. شاعر المحبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعود اليوم للاتصال بالشاعر والأديب العربي جبران خليل جبران، لنكمل معه حوارنا، ونطرح عليه أسئلتنا التي تكونت من دراستنا لحياته وإنتاجه الأدبي والشعري.

 

قلت: قبل أن ندخل إلى ما تركته للأجيال من شعر ونثر، نعيد عليك السؤال الذي طرحناه في اللقاء السابق، وأجّلت الإجابة عنه حتى اليوم، هل دخلت في تجربة الحب؟

قال: لم تكن تجربة واحدة يا صديقي، بل دخلت في تجارب عدة، فلا شعر ولا أدب من دون حب.

 

قلت: ولكنك على ما يبدو لم توفق في أي تجربة

قال: لماذا تقول ذلك؟

 

قلت: لأنك لم تتزوج.

قال: لا تنسَ أني مت ولم أبلغ الخمسين بعد.

 

قلت: تعني أنك لو طال العمر لكنت تزوجت؟

قال: لا أدري.. ولكن لم أُمنح من العمر ما يكفي للزواج، كان عمري كافياً للحب فقط.

 

قلت: حسناً.. وما أول حبّ وقعت فيه؟

قال: الحب الحقيقي الذي أذكره، كان لماري إليزابيث هاسكيل.

 

قلت: أمريكية؟

قال: نعم.. كانت مديرة مدرسة (هاسكيل – دين) للبنات في بوسطن، التقيتها أول مرّة، عندما أقمت معرضاً للوحاتي التي رسمتها في محترف الفنان (فريد هولاند داي). أعجبت بلوحاتي.. ونشأت بيننا صداقة، استمرت مدى حياتي القصيرة.

 

قلت: هل تقدمت لها طالباً الزواج؟

قال: نعم فعلت.. ولكنها رفضت.

 

قلت: والسبب؟

قال: أشفقت عليّ.. فهي أكبر منّي سنّاً.

 

قلت: الحب لا يعترف بالعمر.

قال: وهذا ما كنت أومن به، ولكنها كانت خير صديقة وخير سند.. رعتني مادياً ومعنوياً، وكنت، لحبي لها وثقتي بها، لا أخفي عنها حتى أدقّ أسراري.

 

قلت: أمرها غريب.. كيف ترفض الزواج بك؟

قال: الحب يعني العطاء.. لقد أعطتني الكثير، وأرسلتني على نفقتها إلى باريس، وراجعت جميع ما نشرته باللغة الإنجليزية.

 

قلت: أستطيع أن أفهم عدم موافقة تلك المرأة على طلب الزواج.. ولكن حبك للأديبة العربية مي زيادة، والذي كان واضحاً في الرسائل المتبادلة بينكما، يبدو لي أغرب من حبك لماري إليزابيث هاسكيل.

قال: ولماذا؟

 

قلت: لأنك لم توفق بإقناعها بالزواج أيضاً.

قال: عشرون سنة من الرسائل المتبادلة بيننا، دون أن أراها.

 

قلت: أليس هذا غريباً؟

قال: الحب هكذا.. ويجب أن تقرّه مهما كان غريباً.

 

قلت: مما أحفظه من رسائلك لها قولك:

-: تقولين لي: إنكِ تخافين الحبّ، لماذا تخافينه يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لمَ يا ترى تخافين الحب؟

 

قال: قلتُ لها أيضاً:

أنا أعلمُ أنّ القليلَ في الحُبِّ لا يُرضيكِ

كما أعلمُ أن القليلَ في الحبِّ لا يُرضينِي

أنا وأنتِ لا ولنْ نَرْضَى بِالقَليلِ

نحن نريد الكثير، نحن نريد كل شيء.. نحن نريد الكمال

 

قلت: ولكنك كنت واضحاً عندما دعوتها إلى الحب قائلاً:

لا تخافي الحبّ يا ماري.. يا ميُّ يا رفيقة قلبي

علينا أن نستسلم له، رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة.

قال: حاولت بكل ما لديّ من قدرة لغوية، أن أدعوها إلى الدخول إلى محراب الحب لنرتبط ونتزوج، ولكنها تسللت من يدي كما يتسلل الماء...

 

قلت: ولكنها أحبت غيرك.

قال: مستحيل.

 

قلت: عباس محمود العقاد.

قال: مجرد رسائل عاطفية، فميّ كانت صاحبة صالون أدبي في القاهرة، يحضره كبار الشعراء والأدباء في مصر.. ومنهم عباس محمود العقاد.

 

قلت: وما أدراك أنها لم تقع في حبه حقيقة؟

قال: مي.. عاشت وماتت دون أن تتزوج.

 

قلت: وما دليلك على أنها أحبتك.. ولم تكن تجاملك كأديب وشاعر ورسام.

قال: أقرأ لك بعض المقاطع من رسائلها لي، واحكم بنفسك.

 

قلت: تفضل.

قال: تقول في إحدى رسائلها:

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ما أعني.. ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب لا معنى له، وأن القحط والجفاف واللاشيء في الحب، خيرٌ من النزر اليسير.

الحمد لله أنني أكتب هذا على الورق، ولا أتلفظ به، لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً.

وسواء كنت مخطئة أم غير مخطئة، فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل، هو أن يظلّ حائماً حولك يحرسك ويحنو عليك.

 

قلت: بعد أن رأيته يمسح دمعة سالت على خده:

أعتقد من خلال هذه الكلمات، أنها أحبتك فعلاً.

قال: وما الفائدة.. حب على الورق.

 

قلت: الدمعة التي سالت، تؤكد أنه لم يكن مجرد حب على الورق.

قال: لا أنكر أنني أحببتها.

 

قلت: لم يتبقَ لنا الكثير من الوقت.

قال: هذا أفضل، فقد أثرت بي الحنين إلى ما حرمت منه.

 

قلت: نعود إليك كشاعر.. لنختم هذا اللقاء بإحدى قصائدك المميزة.

قال: من أهم قصائدي، قصيدة المواكب.. وأختار لك بعض أبياتها.

 

المواكب

الخير في الناس مصنوعٌ إذا جُبِروا

               والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قُبِروا

وأكثـــر النـــاس آلاتٌ تحـــركهـــــا

              أصـــابع الدهـــــر يـــــوماً ثم تنكسرُ

فأفضل الناس قطعـــــانٌ يسير بهــا

              صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثــــرُ

والسرُّ في العيشِ رغدُ العيشِ يحجبهُ

              فإِن أُزيـــــل تـولى حجبــــهُ الكــــدرُ

فإن ترفعتَ عـن رغــــدٍ وعن كــــدرِ

              جاورتَ ظلَّ الذي حـــارت بهِ الفكــرُ

ليس في الغابات حزنٌ.. لا ولا فيها الهمومْ

              فإذا هبّ نسيـــمٌ.. لم تجئْ معه السمـومْ

ليس حزن النفس إلا.. ظلَّ وهمٍ لا يدومْ

              وغيوم النفس تبدو.. من ثناياها النجومْ

أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا يمحو المحنْ

              وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الزمــنْ

وقلَّ في الأرض مَن يرضى الحياة كما

              تأتيـــهِ عفـــواً ولم يحكـــم بهِ الضجــــرْ

لذاك قـــد حـــوَّلـــــوا نهر الحيـــاة إلى

              أكواب وهـــمٍ إذا طافـــوا بها خـــــدروا

فالنـــاس إن شــربــــوا سُرَّوا كأنهـــمُ

              رهـنُ الهوى وعَلى التخـديـر قد فُطروا

فــذا يُعــــــــربـــــدُ إن صلَّى وذاك إذا

              أثـــرى وذلك بالأحــــــــــــلام يختمــــرُ

ليس في الغابات دينٌ.. لا ولا الكفر القبيحْ

              فإذا البلبل غنى.. لم يقـــلْ هذا الصحيحْ

إنَّ دين الناس يأْتي.. مثل ظلٍّ ويروحْ

              لم يقم في الأرض دينٌ بعد طه والمسيح

أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا خيرُ الصلاة

              وأنينُ الناي يبقى.. بعد أن تفنى الحيـاة

والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا

              بهِ ويستضحكُ الأمـــــــوات لو نظــروا

فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغـــــروا

              والمجــدُ والفخـــرُ والإثــراءُ إن كبـروا

فسارقُ الزَّهـــرِ مَذْمُـــومٌ ومُحتقـــــــــرٌ

              وسارق الحقل يُــدعى الباســلُ الخطــر

وقاتِــــــــــلُ الجســـمِ مقتـــــولٌ بفعلتهِ

              وقــاتـــلُ الروحِ لا تـــدري بهِ البشـــــرُ

ليس في الغابات عدلٌ لا ولا فيها العقابْ

              فإذا الصفصـــاف ألقى ظله فوق الترابْ

لا يقول السروُ هذي بدعةٌ ضد الكتـابْ

              إن عدلَ الناسِ ثلجُ إنْ رأتهُ الشمس ذابْ

أعطني الناي وغنِ.. فالغنا عدلُ القلوبْ

              وأنين الناي يبقى.. بعد أن تفنى الذنوبْ

والحقُّ للــــعَــــزمِ والأرواح إن قــويتْ

              ســادتْ وإن ضعفتْ حلت بها الغـيــــــــرُ

ففي العــــرينــة ريـــحٌ ليس يقـربــهُ

              بنو الثعــالبِ غـــابَ الأسدُ أم حضــــرُوا

وفي الزرازير جُبــن وهي طـــائـــرة

              وفي البــــزاةِ شمــــوخٌ وهي تحتضـــــرُ

 

صفحة متخصّصة تضيء على سير وإبداعات قامات الشعر العربي

Email