ميخائيل نعيمة.. ناسك الشخروب والشاعر الفيلسوف (1 ـــ 2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

نقرع اليوم باب قبر الشاعر العربي اللبناني ميخائيل نعيمة، هذا الشاعر الذي ولد في العام نفسه الذي ولد فيه الشاعر إيليا أبو ماضي والذي كان مع جبران خليل جبران شركاء إيليا أبو ماضي في إنشاء الرابطة القلمية في المهجر.

كان واضحاً أثر السنين في شاعرنا عندما أيقظناه من سباته الأبدي، فهو عاش مئة سنة إلا عاماً واحداً، فقد ولد عام 1889 وتوفي عام 1988.

قلت: عشت تسعة وتسعين عاماً، فهل كنت سعيداً بطول عمرك؟

قال: عشت أحب الحياة وأدعو إلى التمسك بها ولم أتوقف عن إنتاجي الأدبي حتى اللحظة الأخيرة من عمري.

قلت: أين ولدت يا صديقي، وكيف كانت طفولتك؟

قال: ولدت في قرية بسكنتا في جبل صنين، وفي تلك القرية أنهيت دراستي الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدرسة الجمعية الفلسطينية.

قلت: الجمعية الفلسطينية.. أكان لفلسطين في ذلك الوقت هذه القدرة العلمية؟

قال: في مدرستهم تلك تمكنت من وضع الأساس الثقافي والعلمي لنفسي، وهذا ما أفادني فيما بعد عندما قضيت خمس سنوات دراسية في جامعة بولتافا الروسية.

قلت: ومتى كان ذلك؟

قال: ما بين عامي 1905 و1911.

قلت: وماذا درست في تلك الجامعة؟

قال: الأدب الروسي طبعاً، وتمكنت من الاطلاع على مؤلفات الأدباء الروس.

قلت: ولكنك تركت روسيا واتجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

قال: نعم وهناك حصلت على الجنسية الأمريكية ودرست الحقوق.

قلت: ألا تجد غرابة في دراستك القانون وأنت أديب ومفكر وشاعر؟

قال: معظم الأدباء والشعراء العرب وغير العرب لم يدرسوا الأدب، بل ابتعدوا بدراساتهم عن هذا الهاجس الذي يسكن فيهم، ولكنهم لم يستطيعوا إلا الخضوع لما أحبوا وبرعوا فيه.

قلت: أنت مفكر وشاعر وكاتب رواية وكاتب مسرحي وناقد وكاتب مقال، ومتأمل في الحياة والنفس البشرية، فأين تجد نفسك في هذه العناوين التي ذكرتها؟

قال: أجد نفسي في كل هذه العناوين التي ذكرتها.

قلت: هل تعلمت اللغة الروسية؟

قال: بالطبع، خمس سنوات في جامعة بولتافا كانت دراستي فيها باللغة الروسية بل نشرت عدة كتب لي باللغة الروسية ثم باللغة الإنجليزية.

قلت: ولكنك أديب عربي.

قال: لذلك فإن إنتاجي الرئيسي والمهم كان باللغة العربية التي أحببتها وأتقنتها شعراً ونثراً.

قلت: متى شاركت في الرابطة القلمية؟

قال: 1911، بعد وصولي إلى الولايات المتحدة وشغلت منصب نائب الرئيس في تلك الرابطة.

قلت: ومن كان الرئيس؟

قال: جبران خليل جبران.

قلت: تفككت الرابطة بعد موت جبران، أليس كذلك؟

قال: كان ذلك عام 1932.

قلت: ولماذا لم تحافظ عليها وتكون رئيسها؟

قال: بعد موت جبران، كرهت بقائي بعيداً عن الوطن، ولذلك عدت إلى بسكنتا مسقط رأسي عام 1932 لأكمل حياتي فيها.

قلت: سؤال ما زال يحيرني يا صديقي؟

قال: لا تستسلم للحيرة واسأل.

قلت: لماذا أطلق عليك لقب ناسك الشخروب؟

ضحك بصوت مرتفع.

قال: منذ عدت إلى لبنان عام 1936، بدأت حياة عزلة وكان المكان المفضل لعزلتي وتفرغي للكتابة قريباً من الشلال، ومنطقة «الشخروب» القريبة من بسكنتا مسقط رأسي، وهي بقعة صغيرة في سفح صنين تمتاز بطبيعتها الساحرة ومناظرها الخلابة وتكثر فيها الصخور والأشجار والأشواك والعصافير.

قلت: عدت إلى لبنان عام 1932، عدت وحيداً لا زوجة ولا أولاد ولا حبيبة، أيعقل أن يعيش شاعر مثلك بدون حب؟

قال: أنت تنكأ جرحاً قديماً يا صديقي.

قلت: ألم يندمل بعد؟

قال: كل الجراح تندمل إلا جرح الحب.

قلت: أثرتني.. أريد أن أعرف؟

قال: عندما كنت في روسيا وقعت في حب فاريا.

قلت: كل حب ينتهي بالزواج.

قال: ولكن فاريا الجميلة الشقراء ذات العيون الزرقاء كانت متزوجة.

قلت: حب طريقه مسدودة، ابحث عن حب آخر.

قال: الحب عندما يتمكن من العاشق لا يستطيع أن يبدله.

قلت: ولكنها متزوجة.

قال: ومع ذلك كانت تحبني ولا تحب زوجها.

قلت: الموضوع صعب؟

قال: طلبت الطلاق، ولكن المذهب الأرثوذكسي لا يبيح الطلاق ولا يسمح به.

قلت: فماذا فعلت؟

قال: كنت بين خيارين، إما أن أخالف الدين والأخلاق أو أتخلى عن حب عمري.

قلت: هذا يذكرني بقول أبي فراس

وقال أصيحابي الفرار أم الردى

فقلت: هما أمران أحلاهما مر

قال: اخترت الرحيل بقلب مجروح عن روسيا إلى الولايات المتحدة.

قلت: مأساة حقيقية، ولكنك لم تخضع لمشاعر الحزن واستمر حبك للحياة واضحاً في كل إنتاجك.

قال: وهذا ما جعلني أعزف عن الزواج وأعيش وحيداً بقية عمري.

قلت: عرفناك شاعراً مبدعاً، ولكن حينما بحثت في إنتاجك وجدت الشعر لديك هو الأقل حيث لم تنشر إلا ديواناً واحداً هو «همس الجفون» وكان ذلك عام 1945 في بيروت.

قال: هذا صحيح.. فإنتاجي القصصي كان أغزر، فمجموعتي القصصية الأولى بعنوان «سنتها الجديدة» نشرتها عام 1914 وفي العام التالي نشرت قصة (العاقر) وفي عام 1952 أصدرت قصة «مرداد» وفي عام 1958 أصدرت قصة «أبو بطة».

قلت: ولكنك لم تكتب إلا رواية واحدة هي «مذكرات الأرقش».

قال: وجدت نفسي أكثر ميلاً لكتابة المجموعات القصصية.

قلت: أعتقد يا صديقي ميخائيل أننا بحاجة إلى جلسة أخرى، فلا يزال لديّ العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات منك.

قال: ولم لا.. لتكن لنا جلسة أخرى.

قلت: أريدك أن تختار لنا قصيدة من شعرك يمكنها أن ترسم لنا طبيعة هذا الشعر واتجاهاته.

قال: أكثر قصيدة أحبها هي النهر المتجمد.

قلت: حسناً.. وماذا تقول؟

النهر المتجمد

يا نهرُ، هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخريرْ؟

أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟

بالأمسِ كنتَ مرنّماً بين الحدائقِ والزهورْ

تتلو على الدنيا وما فيها أحاديثَ الدهور

بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانعَ في الطريقْ

واليومَ قد هبطتْ عليك سكينةُ اللحدِ العميق

بالأمس كنتَ إذا أتيتُكَ باكياً سلَّيْتَني

واليومَ صرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكاً أبكيتني

بالأمسِ كنتَ إذا سمعتَ تنهُّدِي وتوجُّعِي

تبكي، وها أبكي أنا وحدي، ولا تبكي معي!

ما هذه الأكفانُ؟ أم هذي قيودٌ من جليدْ

قد كبَّلَتْكَ وذَلَّلَتْكَ بها يدُ البرْدِ الشديد؟

لكن سينصرف الشتا، وتعود أيامُ الربيعْ

فتفكّ جسمكَ من عِقَالٍ مَكَّنَتْهُ يدُ الصقيع

وتكرّ موجتُكَ النقيةُ حُرَّةً نحوَ البِحَارْ

حُبلى بأسرارِ الدجى، ثَملى بأنوارِ النهار

قد كان لي، يا نهرُ، قلبٌ ضاحكٌ مثل المروجْ

حُرٌّ كقلبِكَ فيه أهواءٌ وآمالٌ تموج

قد كان يُضحي غير ما يُمسي ولا يشكو المَلَلْ

واليوم قد جمدتْ كوجهِكَ فيه أمواجُ الأمل

فتساوتِ الأيامُ فيه: صباحُها ومساؤها

وتوازنَتْ فيه الحياةُ: نعيمُها وشقاؤها

سِيّانِ فيه غدا الربيعُ مع الخريفِ أو الشتاء،

سيّانِ نوحُ البائسين، وضِحكُ أبناءِ الصفاء

نَبَذَتْهُ ضوضاءُ الحياةِ فمالَ عنها وانفردْ

فغدا جماداً لا يَحِنُّ ولا يميلُ إلى أحد

وغدا غريباً بين قومٍ كانَ قبلاً منهمُ

وغدوت بين الناس لغزاً فيه لغزٌ مبهمُ

يا نهرُ ذا قلبي، أراهُ، كما أراكَ، مكبَّلا

والفرقُ أنَّك سوفَ تَنشطُ من عِقالِكَ، وهو... لا

 

Email