جمع الموروث الفني.. حفظ لمفردات الماضي
يمكن اعتبار ألوان الفنون الشعبية المختلفة معبراً عن الجانب الفكري. وتبقى أثيرة لدى القلوب رغم التطور المذهل للفنون الأخرى، وهي الأكثر قرباً من النفوس والأعمق تأثيراً في الأمزجة. كما تبقى أصيلة، مترفعة، معتزة بنفسها، ويفتخر بها كل من مارسها وأداها. كما إن التراث الفني لونته البيئة المادية، وصاغته البيئة الاجتماعية، وأثرت به في حياة الإنسان بصفة عامة من الناحيتين العقلية والوجدانية.
ورغم انحسار الكثير من العناصر المكونة للتقاليد الفنية التراثية بسبب فقدانها لبعض أجزاء الخزين المكون لها، وشيئاً من حيويتها الأصيلة أو من أسلوب أدائها إضافة إلى فقدانها لأبرز مؤديها الكبار والأوائل، ومع ذلك فإن استدراك ما تبقى منها، هو على درجة كبيرة من الأهمية. مع الانتباه إلى جمهورها المتعلق بها، والمدرك لتقنياتها ووظائفها ومعانيها. وهو جمهور لا يزال على صلة بتلك الفنون، ولا يزال في الوقت نفسه يشعر بالحاجة إليها، فهي بالنسبة إليه تحقق رغبته في تذوق الجمال الفني. وتعزز عنده مشاعر الانتماء الاجتماعي. ورغم وجود مثل هذا الجمهور إلا أنه مع مرور الوقت يكاد يتقلص شيئاً فشيئاً إذا لم نتدارك فوائت هذا الفن قبل أن ينتهي وجوده، ويختفي جمهوره.
وكما يقول أحمد أمين: إن قوانين الجمال واحدة مهما اختلفت مادتها الأولية، فقد تكون المادة حجراً فتكون تمثالاً، أو لوناً فيكون تصويراً، أو صوتاً فتكون موسيقى، أو يكون شعراً أو نثراً. ويضيف: وقد ندرك الجمال بأعيننا، وقد ندركه بآذاننا. وإن كل الفنون مرجعها عند الفنان والسامع والرائي إلى الشعور بالجمال.
أهداف الجمع الشفاهي
يجب أن ترافق عملية الجمع توثيق جهود الآباء وحفظها في ميدان الفنون الشعبية المعرفة والخبرة والدراية والدربة. ويتم من خلالها التعرف على أداء الفنون، وأشعارها، وتوثيق أصولها وقواعدها، وأسماء مسؤولي الفرق الأقدمين. ولا يتم ذلك إلا بإجراء مقابلات مع كبار المؤدين والرواد أو مع من عاصرهم ونقل عنهم. وفي الوقت نفسه يمكن الاستعانة بما نشر حول هذه الفنون في الصحافة المحلية، وما تم حفظه في الصور والفيديوهات. ويتطلب ذلك أيضاً إعداد قائمة بأسماء الرواة، وتوزيع التسجيلات، وتدوينها. وفي نهاية المطاف تنتج عن كل تلك الجهود دراسة علمية موثقة.
ومن الجدير بالإشارة أن الجمع الميداني للموسيقى والفنون يكشف عن تنوع ثري يختزنه واقع الثقافة الفنية الشفهية والحركية في ميادين شتى. ويساهم أيضاً في اكتشاف لهجات الفنون وألفاظها. كما يتعرف الباحث في العمل الميداني في الفنون على الظروف المعيشية التي مر بها المجتمع، ويتلمس من خلال الأغاني القيم والعادات والتقاليد السائدة قديماً. كما أن كثرة الفنون التقليدية التي توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل تدل على اهتمام الجماهير بهذه الموروثات. وتحتل هذه الفنون الأصيلة بالتالي مكانة خاصة في حياة الآباء والأجداد، ولا تزال تواكب الوجدان، وتعبر عن الأحاسيس والشجون والتطلعات. وفي اعتقادي أن الغوص في أعماق التراث الفني الشعبي هو بمثابة التقاط اللآلئ الأصيلة الراسخة في أعماق المجتمع. وتقوم على أساس متين ومكين ضمن المنظومة المتكاملة للحركة الثقافية والأدبية والفنية في الإمارات. وأي عمل جمعي ميداني هو ترسيخ لأسس قوية لأية نهضة ثقافية وفكرية. مع الانتباه إلى أن استلهام التراث بما فيه من عناصر لا يمكن أن يتم دون دراسة وتمحيص وتدقيق وتوثيق.
المنهجية العلمية
إن تخليد الفنون الشعبية وحفظها لا يتأتى فقط من خلال جمع بعض القصائد من هنا وهناك من دون خط عملي واضح. بل هو عمل متكامل يعتمد جزء منه على الميدان والالتقاء برموز الفنون، ويعتمد الجزء الآخر على تأصيل المنهجية العلمية في الكتابة والتأليف. وبناءً عليه فيجب اعتماد المقابلات كمصدر توثيقي رئيس لأنها تكاد تكون هي المصدر الأول وربما أحياناً الوحيد. وفي الوقت نفسه يجب أن تتضمن المقابلات معلومات اجتماعية وبيئية وفنية واقتصادية، وأحاديث شخصية حول الرواة. وهو أمر طبيعي للتعرف على الراوي من خلال حياته وعلاقاته مع الناس في المجتمع بكل أشكالها، وإبراز ما كان يتمتع به الراوي من مهارات عملية، وكفاءات حرفية. كما أن الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها الراوي تعد جزءاً من حياة المجتمع بشكلٍ عام، وهي أيضاً تعتبر جزءاً مكملاً لابد منه لاستكمال الحياة العامة في المجتمع في الماضي التي لم تشهدها الأجيال المعاصرة.
أبعاد إنسانية مباشرة
وبصورة عامة فإن المقابلة الشفهية بحد ذاتها توضح أبعاداً إنسانية نفسية ومباشرة، كما تفسح المجال أمام جميع الفئات الاجتماعية كي تعبر عن مكنوناتها ومشاعرها. وفي الوقت نفسه فإن الباحث الحصيف أثناء إجراء المقابلات يلاحظ الانطباع العام لدى الراوي، وتأثير الأحداث عليه من خلال تعبيرات وجهه، وحركات يديه، وإشاراته، وتلميحاته. على أن تفرغ المقابلات وتدون بلغة عربية واضحة أو مفهومة على الأقل على القارئ العادي، ولا يمنع من تضمينها بعض الفقرات باللهجة المحلية إن تطلب الأمر ذلك، مع تفسير بعض الألفاظ في الهوامش.
ربما مثل هذه الإصدارات المتعلقة بالفنون الشعبية تتطلب استعراضاً فنياً، وعرضاً موسيقياً، وإحصاءات وجداول ألحان ونوتات إلا أن مثل هذه الأمور التكميلية ينجبر نقصها باستشارة أهل الفن، والاستعانة بهم في تثبيت معانيها. وفي كل الأحوال فإن أي عمل فكري بشري معرض للقبول أو الرفض من قبل القراء، وهذا لا يمنع من النقد البناء، وهو طبيعي أن يحدث في مثل هذه الإنتاجات خصوصاً.
عرضة للاندثار
تعني لفظة: «الاندثار» عدم وجود أحد يواصل الأداء الفني، وربما يعود السبب إلى الوضع المالي، وكون تقبل السابقين للفن غير عن تقبل الجيل المعاصر له. بالإضافة إلى انشغال الشباب بالدراسة ثم بالعمل وما تلاه من انشغال في أماكن العمل، والانشغال مع الأهل والعيال، بالإضافة إلى ضعف إقبال الشباب على الفن الشعبي. وبعد نشوء جمعيات الفنون الشعبية في الإمارات غرق بعض إدارات الجمعيات في خلافات شخصية أثرت على انضمام الشباب إليها ثم مع مرور الوقت ضعف دور هذه الجمعيات ولم تعد محضناً جاذباً للشباب بالإضافة إلى انعدام الحوافز للمتدربين.
بالإضافة إلى تغير أمزجة الشباب في هذه الأيام وانشغالهم بملهيات وتسال جذابة، وأمور أخرى تمنعهم من ممارسة الفن. وبلا شك فإن الفن يحافظ على حضوره إذا ما مورس. ويبقى الاختلاف في استعمال الآلات الحديثة وإدخالها على ما توارثته الأجيال من آلات قديمة، إذ ربما يجذب إدخالها جيل الشباب المتعطش للحديث، وربما تكسب بعض الفنون تطوراً وجمالية. ولكن هذه الآلات المقحمة ربما لا تكون مقبولة في كل الفنون التراثية.
بين النظرة السلبية والواقع
وبطبيعة الحال كانت كل الفنون موجودة في مجتمع الإمارات بأنواعها، وهي متعددة بغض النظر عن اختلاف آراء الناس حولها. ومن الجدير بالذكر أن النظرة السلبية لبعضها لم تكن أصلاً موجودة في السابق. ومثل هذه النظرة السلبية تنتشر الآن بالوسائل المعاصرة، وربما يفتي في مثل هذه الفنون شباب صغار يفتون بأمور لا يعلمون أصول تلك الفنون، ولم يمارسوها، فيقولون: هذا الفن غير أصلي، وهذا الفن أتى من كذا مكان. وهذا يشير إلى عدم دراية، وعدم اطلاع.
وفي هذه الحالة على الإنسان اللجوء إلى الأصل وأهل الخبرة الذين عاصروا نشأة تلك الفنون ونقلوا أخبارها إلى الأجيال اللاحقة التي تواصلت مع أولئك السابقين. وما أجمل مسمى: «الفنان الشعبي» حين يطلق على المؤدين الكبار الذين انغمسوا في هذا الفن الرائع، بل هو مفخرة بالنسبة لهم لأنه يعيدهم إلى التراث القديم بكل ما فيه من روعة وجمال. وهذه الفنون الشعبية يشارك فيها الأهالي من كل شرائح المجتمع، وكأن ذلك يوحي بالقول إن الفن يجمعهم على حب السماع وتذوقه بل بعضهم يعد لها عدة من الزينة في الملابس والتمنطق بالخنجر، واللعب بالسيف، والإيماء بالبنادق المزركشة.