الثقافة والإبداع.. فرص ثرية للمجتمعات النامية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمّة اعتقاد بأن المجتمعات والدول الكبرى، هي، فقط، المؤهلة لتعميم وترويج ثقافاتها في العالم، وأن المجتمعات والدول الأصغر، ليس أمامها سوى القبول بدور المستهلك للثقافات «العالمية» الكبرى. لا يحتاج المرء لأن يجادل كثيراً، حتى يدرك أن هذا مجرد وهم، لا ينسجم مع الواقع، ولا يمثل قاعدة مسلّماً بها. والأمثلة كثيرة على ذلك. كما أن هذا «الوهم» لا يستند إلى خبرة عيانية، ولا إلى واقع ملموس، بل على العكس، هو واحد من نتاجات وأعراض إهمال الثقافة، والاستخفاف بالإبداع.

على أي حال، تغير الوضع، وتبدل الحال، ولم يعد هذا توجهاً رائجاً، ولا مقبولاً، لا سيما في السنوات القليلة الماضية، التي ظللتها الجائحة.

دروس الجائحة

تلقى العالم درساً قاسياً خلال العامين المنصرمين، لقد حلت الجائحة، وألقت بظلالها على الواقع اليومي، وفرضت حالة غير مسبوقة من الإغلاق العالمي، فتعطلت مظاهر الحياة، وتوقفت الأنشطة الاقتصادية، برمتها، إلا ما له علاقة بإطعام الناس، وصحتهم الجسدية والروحية.

وهكذا، فجأة، اتضح أن الثقافة، مثلها مثل الخبز والرعاية الصحية، هي مما لا يمكن للمجتمعات أن تستغني عنه. لا، بل هي ضرورة لمواجهة أهوال الجائحة، والحفاظ على التماسك الاجتماعي، واستقرار المجتمعات، في الظروف الاستثنائية.

دروس الحرب

واليوم، نتعلم الدرس مرة أخرى. ولكنه لا يتعلق الآن بالجائحة، ولكن بحالة الاضطراب الكبير، التي يعيشها العالم، وتلقي به في أتون النزاعات والصراعات، حيث، مرة أخرى، تضطرب قطاعات الاقتصاد، وسلاسل التوريد، والمخزونات الاستراتيجية من الطاقة والغذاء.

وتماماً، كما حصل إبان الجائحة، تبدو الثقافة قطاعاً محصناً ضد الكوارث والأزمات، ويمكنها أن تقدم البدائل، والمساهمة في الحد من الآثار الكارثية التي تلحق بالمجتمعات والدول، بسبب الحروب، كما فعلت أثناء الجائحة.

صحوة في وقتها

لقد قادت الجائحة، فيما قادت، إلى تسريع التوجه العالمي نحو الاقتصاد الثقافي، بخطى غير مسبوقة. وكانت هذه صحوة في وقتها. ومن الواضح أن ما نشهده على الساحة السياسية الدولية، اليوم، بآثاره الزلازالية، سيقود إلى مزيد من الدفع بهذا الاتجاه.

وهذا يعني أمراً أساسياً: إن الاقتصادات ستبحث عن قاعدة ثقافية، تكون بمثابة طوق أمان، واحتياطياً استراتيجياً، يبقيها على قيد الحياة وقت الأزمات. وينوب عنها في تنظيم الحياة اليومية، والتعويض عن القيم التي يمنحها العمل، والدورة الاقتصادية، للإنسان.

وبذا، لم تعد الثقافة شأناً يتعلق بالرفاهية، بقدر ما باتت حاجة وضرورة حياتية، لا بديل عنها.

إعادة هيكلة

هذا كله يؤشر على ضرورة أن تعيد المجتمعات هيكلة نفسها وقطاعاتها المختلفة، وإعادة توجيه قدر من المناسب نحو تحويل الثقافة إلى قطاع متكامل، تتناسب في أركانه المتطلبات الروحية مع الممكنات الاقتصادية.

وفي الطريق إلى ذلك، لا بد من إدخال المؤشرات المتعلقة بالثقافة في سياق المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية العامة، بينما يتم حساب قوة هذا الاقتصاد أو ذاك المجتمع. وهذا يقتضي تغيير منظومة كاملة، سائدة، تُقصي الثقافة وأهلها، وتستخف بدورها وبنتاجاتهم. واستبدال هذه المنظومة بأخرى، جديدة وعصرية، تضع «رأس المال» الثقافي، على قدم المساواة مع رأس المال المالي. ومساواة الإبداع من حيث أهميته والرعاية التي يلقاها بالإنتاج الصناعي، والاعتراف بالمبدعين جزءاً لا يتجزأ من النخبة الاجتماعية، وشريكاً أصيلاً في التنمية.

تنمية مستدامة

وفي الواقع، لقد تحقق الاعتراف العالمي بدور وأهمية الثقافة في التنمية في عام 2015، حين تمّ إدراجها لأول مرة في جدول الأعمال الدولي للتنمية المستدامة، وذلك ضمن أهداف التنمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة في سبتمبر من العام نفسه.

وظهرت هذه الانعطافة المفاجئة نحو الثقافة، ذلك لأنها تمثل أداة فعالة في تحقيق جزء كبير من أهداف التنمية المستدامة: مدن آمنة ودائمة، مثل، تأمين عمل لائق ونموّ اقتصادي، وتقليص في الفوارق، وحماية البيئة، والمساواة بين الجنسين، وبناء مجتمعات سلمية وشمولية.

وبالتركيز على الأسس الثلاثة للتنمية المستدامة، «الاقتصادي» و«الاجتماعي» و«البيئي»، يظهر بوضوح الدور الذي يؤمّنه، في كلّ منها، البعد الثقافي والإبداعي.

وهنا، عدة اعتبارات مهمة:

• التراث الثقافي المادي وغير المادي، والطاقة الإبداعية، موارد يجب حمايتها وإدارتها بكل عناية.

• الثقافة والإبداع قادران على أن يكونا مُحرّكين لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وعلى تيسيرها.

• إن المقاربة الثقافية، هي عنصر أساسي لإنجاح المجهودات المبذولة لبلوغ أهداف التنمية المستدامة.

• إن ما تمتاز به الثقافة من تشريك للأفراد والمجموعات المختلفة في وضع المشاريع، لا يشجّع فقط على تماسك المجتمع، ولكنه كذلك يمثل مساهمة في تحقيق الهدف 17 للتنمية المستدامة «الشراكة».

• إن السياحة الثقافية تُمثّل 40 % من مداخيل السياحة العالمية. ولهذه العوائد تأثير إيجابي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وبما يفوق عوائد قطاعات أخرى.

• إن المدن والمناطق الثرية بالمرافق الثقافية، وتلك التي يتوفّر فيها قطاع إبداعي حيوي، هي أكثر جاذبية للمؤسسات الخدمية والاقتصادية وقطاع الأعمال.

ومن الواضح أن تعزيز دور الثقافة والإبداع، وتمكينها في المجتمعات، يمثل ضرورة بالنسبة الدول والمجتمعات الصغيرة قبل الكبيرة منها، كما أن ذلك يتناسب، بالذات، مع تلك الدول التي تواجه معضلات التنمية الاقتصادية، وتعاني من الآفات الكبرى في التعليم والصحة، وتوفير فرص العمل.

حضور وغياب

وبغض النظر عن حجم الدولة أو المجتمع، يقتضي الاستثمار في الثقافة والإبداع، وتفعيل دورهما في التنمية المستدامة، متطلبات أساسية، منها العمل على إرساء بنية تحتية تخدمهما، وتتيح لهما الفرص لإطلاق المشاريع، التي يمكنها أن تخلق وظائف مجزية، وتمكينهما من التحول إلى فرص استثمارية.

وبما لا يقل عن ذلك أهمية، السعي نحو تمكين المبدع من الفرص الاقتصادية، وإتاحة المجال أمامه للاستفادة من أدوات التمويل، وكذلك الدعم الحكومي والحوافز والتسهيلات، والخدمات اللوجستية، والمنصات الإعلامية.

وفي الواقع، هذا ليس بالشيء الكثير، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، دروس المرحلة الماضية والأحوال الماثلة اليوم في العالم، التي تؤكد أن كلفة غياب القطاع الثقافي والإبداعي، هي أعلى بكثير مما تتطلبه، في حال وجودها، من إنفاق سخي.
وهنا، لا بأس من إدراك أن الثقافة هي امتداد للتعليم. وهي، مثله، في غيابها أكثر كلفة، وأفدح ضرراً.

ميول وحاجات

قد يكون ما سبق، هو أمور متفق عليها. ولكن يمكن أن يجادل إنسان بأن الثقافة والإنفاق عليها، هي أمور مرتبطة بحجم الدول، انطلاقاً من القول بأن الدول الصغيرة، لا تمتلك الفرصة المتساوية في نشر ثقافتها، مهما اجتهدت وأنفقت عليها.

حسناً..

يقدر عدد سكان الكرة الأرضية نحو سبعة أو سبعة ونصف مليار إنسان. ونصف هؤلاء هم أبناء الشعبين الصيني والهندي.

وبرغم تقدم الصين ومنجزاتها ونجاحاتها واتساع اقتصادها، وقدرته على إنتاج موديلات جديدة من الأعمال وطرائق الإنتاج، ونماذج التبادل التجاري، وكذلك برغم فضائل العقول الهندية، وإسهاماتها الكبيرة في الطفرة التقنية والتكنولوجية، والإنتاج البوليوودي الضخم من الأفلام والأغاني، إلا أن الثقافة الغربية الأمريكية، هي الأكثر شيوعاً في العالم، علماً بأن عدد الأمريكيين لا يزيد على 10 % من مجموع عدد الصينيين والهنود، ويمثلون 4 % فقط من سكان العالم.

في الحقيقة، تميل الشعوب الكبيرة العدد، إلى توجيه طاقاتها الثقافية والإبداعية، إلى تلبية حاجاتها المحلية، بينما تسعى الشعوب الأصغر إلى نشر ثقافتها عالمياً، وكثيراً ما تفلح في ذلك.
ويمكن هنا، أن نتذكر أن ثورة الهاتف النقال في صيغته المعاصرة جاءت، ابتداءً، من بلد أوروبي صغير، هو فنلندا، عبر ذلك الجهاز الذي عرفه العالم باسم «نوكيا».

وفي حالة مألوفة، يعد لبنان من أصغر الدول العربية، ناهيك عن أنه عاش تاريخياً فترات اضطراب طويلة، وعانى من حروب متعددة، إلا أنه في المجال الثقافي والإبداعي، كان، ولا يزال، ينافس مصر، التي تعد واحدة من أكبر دول العالم سكاناً وإنتاجاً فنياً وثقافياً.

في الحقيقة، تبقى الثقافة، كما الإبداع، سخيين، ولا يبخلان بالفرص على الاقتصادات الناشئة، والمجتمعات النامية.
 

Email