بيعةٌ ووفاء قراءة في قصيدة محمد بن راشد «في جنة الخلد»

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بمِداد الحب والوفاء نعى صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، أخاه وعضيده الشيخ خليفة بن زايد آل نهيّان ،رحمه الله، الذي غادر هذه الدار الفانية، ووافته المنية بعد رحلة طويلة من العطاء في سبيل رفعة الوطن وإسعاد إنسانه، حيث نشر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد قصيدة هي أشبه ما تكون بدمعة ساخنة تتحدر على وجنة هذا الفارس وهو ينعى رئيس الدولة الذي عاش معه رحلة بناء الوطن، وشاركه شرف التعلم في مدرسة الباني المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان رحمه الله الذي غادر هذه الدنيا عام 2004، وتسلّم المغفور له الشيخ خليفة مقاليد الحكم في رئاسة الدولة منذ ذلك الحين، وقاد الإمارات في واحدة من أدق المراحل الحساسة في تاريخ المنطقة بكل كفاءة واقتدار، وشهدت البلاد في عهده نهضة شاملة كانت تتويجاً لكلّ ما غرسه الوالد الكبير في قلب هذا الفارس الشجاع الحكيم الذي يفيض وجهه بالخير والحب والرحمة، ولا يعرف عنه الناس إلا مكارم الأخلاق قبل أن يدهمه المرض رحمه الله، في السنوات الأخيرة راجين من المولى سبحانه أن يكون ذلك كفارة له وفي ميزان حسناته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

(في جنة الخلد) هو العنوان الذي اختاره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لهذه القصيدة التي نعى فيها الشيخ خليفة بن زايد رحمه الله، و(في جنة الخلد) كانت هي الكلمة الأخيرة التي ذكرها صاحب السموّ حين تكلم عن رحيل الشيخ زايد رحمه الله في سيرته الذاتية (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً) حيث كتب فصلاً فياضاً بالمحبة عن الشيخ زايد ووقف طويلاً عند الجوهر العميق البسيط لهذه الشخصية النادرة ليختم ذلك كله بقوله «في جنة الخلد يا زايد الخير» لتكون هذه العبارة الفخمة هي الدعاء الذي يخصّ به هؤلاء الأحباب المغادرين من أخواله الكرام آل نهيّان عليهم رحمة الله.

أنعي إلى الشعب مَن باسمه يعيش الشعب

وأنعي إلى الكون عضدي ريّس الدوله

خليفه اللي مثل ماي السَّحاب العذبْ

وريث عرش العلا يمناه مبذولهْ

بهذا المطلع المَهيب الجليل يفتتح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذه المَرثاة التي ينعى فيها سيد البلاد الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى تاركاً في قلوب جميع من عرفه وعاش في كنفه غُصّة من الحزن والأسف الذي لا يبلى على مرور الأيام، فقد كان الشيخ خليفة رحمه الله مثل الغيمة الماطرة والبحر العذب الفرات الذي لا ترتوي منه القلوب والأرواح، سجايا وشمائل ورثها عن والد ذاع صيته بمكارم الأخلاق، فكان نعم الوارث لذلك المجد الأصيل، وها هو صاحب السموّ ينعى هذا الجبل الكبير ليعزي الشعب بوفاة هذا القائد الرمز الذي كان لاسمه أكبر الأثر في بهجة الحياة، وكان له من الحضور العالمي بحيث إنّ الكون كله سيفتقد هذا الرجل الكبير المقام والذي كان عضيداً لا يخذل عضيده، عاش معه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أكرم سنوات العمر، وكانا متعاضدين مثل سيفين صارمين وبحرين زاخرين في سبيل مجد الوطن ورفعة شأنه، ويزداد عمق الإحساس بالمحبة والإخاء حين يصف المغفور له بأنه كان مثل الماء العذب في سهولة أخلاقه وكرم معاشرته، وأنه الوارث الصادق الوراثة لمجد أبيه وملك أجداده الذين حافظ على سيرتهم وخلائقهم في السياسة والحكم، وكانت يده مبسوطة بالخير والعطاء، جواداً يبذل ما ملكت يمينه في سبيل سعادة شعبه وارتقاء وطنه رحمه الله.

في جنة الخلد لا في الشرق لا في الغرب

مشبهٍ لك مع إصعوده ومع إنزوله

حملتْ عنّا العَنا وياما حملت الصعب

واليوم نفسك إلى الجنات محموله

إنّ أرقى تجليات المحبة أن تدعو لمن تحب بأن يكون من أهل الجنة في النعيم المقيم، فهذا هو الحبّ الذي لا يعلوه حبّ، وكيف لا يستحق الحب من كان لا نظير له بين الرجال القادة لا في الشرق ولا في الغرب، فهو المتميز عن الجميع في جميع أحوال الحياة، وهو الرجل الذي حمل أعباء الحكم وصبر صبر الكرام في سبيل مجد البلاد وسعادة العباد، رحمه الله، فعسى أن يكون جزاء ذلك أن يشمله رب العباد بالرحمة والمغفرة ويكون من أهل الفوز والسعادة في الدار الآخرة.

يا رب شعبه رضا عنّه فكن يا رب

راضي عليه وبرحمه منك مبذوله

اجعل خليفه بجنات النعيم وصبْ

عليه من مغفره بالعفو مشموله

ولأنّ الناس هم شهداء الله في الأرض، فإنّ شعب الإمارات قد غمر قائده بالرضا والحب بسبب ما رأى من كرم أخلاقه وحسن سياسته وكثرة احتماله، ومن كان في هذه المنزلة من قلوب شعبه فإنّ الألسنة تنطلق بالثناء عليه في الدنيا وبالدعاء له حين تفقده القلوب والأرواح التي أحبته، فتدعو له بالروح والريحان والرضا من رب غفور رحيم بأن يشمله بالرحمة السابغة، وأن يجعل مسكنه في جنات النعيم وأن يصبّ عليه الرضوان والمغفرة وأن يشمله بعفوه الذي لا يُنال إلا بمحض فضله ورحمته سبحانه.

وصبّر محمد ونوّر له يا رب الدرب

نعم الخلف للسلف ريّس على الدوله

لي له نبايع على الطاعه بصدق وحب

وطاعة ولي الأمر بالحق مكفوله

وبأخلاق القائد الكبير ينعطف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بالكلام إلى عضيده وسميّه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد الذي تسلّم مقاليد الحكم، فيدعو له بالصبر على مصيبة فقد هذا القائد الكبير والأخ الفذّ، وأن تكون دربه مفروشة ببساط النور، فهو نعم الخلف لخير سلف، فما زال هذا الوطن محظوظاً بآل نهيّان الكرام الذين قدّموا النموذج الأرقى في الحرص على حبّ الوطن ووحدة ترابه، وعلى كاهل الوالد الأكبر الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله قام مجد هذا الوطن الذي يستحق أن يظل مصوناً من كلّ ما يعكّر صفو مسيرته، ولذلك جاءت هذه البيعة من شيخ الشيوخ وكبير الدار وفارس الجزيرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لتظل مسيرة الوطن في مسارها الصحيح، ولتظلّ مقاليد الحكم في وطننا الأعز ضمن تقاليد التأسيس، فالحمد لله على هذه النعمة السابغة التي تتجلى في هذا التماسك النادر بين رجال الحكم في وطننا الطيب الأصيل الذي يستحق كلّ رفعة ومجد وتمكين، ورحم الله طيب الذكرى الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وتلقاه بالروح والريحان والمغفرة والصفح والغفران، وأعان الله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد على حمل أعباء هذه الأمانة التي لا يقوى على حملها إلا الرجال الرجال، وأطال الله في عمر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي سيظل نبراساً نهتدي بثاقب فكره في مسيرة الوطن ليظل الوطن بجميع إماراته محفوظاً بسياج المحبة والإخاء، مشمولاً برعاية قِوامها الحب والصفاء.

Email