الاقتصاد الثقافي.. موجة «الجنون» الكورية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

التعريف بالاقتصاد الكوري غني بالمعطيات المثيرة، إنه اقتصاد سوق، يحتل الترتيب الخامس عشر عالمياً وفقاً للناتج المحلي الإجمالي، والثاني عشر بمقياس القدرة الشرائية، وهو واحد من اقتصادات مجموعة العشرين، وواحد من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم.

في الواقع، (1) لا تمتلك كوريا الجنوبية موارد طبيعية، و(2) تعاني من الاكتظاظ السكاني، و(3) صغر المساحة، إلا أنها (4) تمتلك سوقاً استهلاكية داخلية كبيرة. ومع ذلك، فهي (5) تراهن على استراتيجية الاقتصاد الموجه نحو التصدير، لكن هذه الاستراتيجية هي ضرورة لا بد منها للسيطرة على الميزان التجاري، في (6) بلد يعد واحداً من أكبر المستوردين في العالم.

من جانب آخر، (7) الأزمات المالية العالمية تجد طريقها سريعاً للتأثير باقتصاد هذا البلد، لكن كوريا الجنوبية (8) واحدة من البلدان التي تظهر كفاءة عالية في التعامل مع الأزمات، والسيطرة على آثارها، لدرجة أن التجربة الكورية الأهم، هي في هذا المجال، رغم (9) اعتمادها في هذا على حزم إنقاذ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

عملياً، نحن أمام حصانة اقتصادية محلية، بمقابل هشاشة أمام الأزمات المالية العالمية.

من جانب آخر، كانت كوريا تمثل واحدة من الثقافات غير الرائجة عالمياً، بل و«الغريبة» بالنسبة لمجتمعات المركز الرأسمالي الغربي، لكنها، مع ذلك وجدت نفسها أمام استحقاق الرهان على الاقتصاد الابداعي، وتحديداً على المجال الثقافي منه. وكان رهانها ناجحاً، إذ سرعان ما وضعت العالم أمام ما يسمى اليوم بـ«بالموجة الكورية».

لقد كانت «الموجة الكورية» بمثابة تسونامي، اجتاح العالم بسرعة جنونية واختصر مهمة القرون بعشر سنوات، وأصبحت الثقافة الكورية الأسرع انتشاراً عالمياً.

لم تحقق كوريا الجنوبية هذا النجاح المذهل بالاعتماد على المؤسسات، ولكن باقتراح وتنفيذ السياسات والاستراتيجيات، وهذا واحد من أساليب متعددة في التعاطي مع المعضلات والتحديات. ولكن كوريا الجنوبية، التي لديها معضلة سياسية تشبه ما تواجهه تايوان في هذا المجال، كانت لديها أسبابها الوطنية والسياسية والوجودية. وكانت محتاجة، لأسبابها هذه، إلى صنع وخلق هوية وطنية مستقلة، ولا يتأتى ذلك إلا بالإنجاز الثقافي.

وعموماً، كانت الاستراتيجيات والسياسات الكورية واضحة، وتذهب إلى جعل الصناعات الثقافية جزءاً من الاقتصاد الوطني، عبر توافقات وطنية، وإجراءات حكومية.

وفي مجال التوافقات الوطنية، ذهبت الحكومة الكورية الجنوبية إلى علاماتها التجارية الكبرى، التي نشأت وتطورت بمساعدة الحكومة (ومنها، سامسونغ وهونداي)، وألزمتها بتمويل صناعة الثقافة الكورية وتسويقها عالمياً. وكانت (الحكومة) قد وصلت قبل ذلك إلى استنتاج فرضته على الواقع، مفاده أن انتشار الثقافة الكورية عالمياً سيعود بالنفع على هذه الشركات وموقعها في خارطة الأعمال العالمية، كما أن ذلك سيحول «كوريا الجنوبية» إلى علامة تجارية موثوقة ورائجة، ما سيسعف بقية القطاعات الاقتصادية.

شملت هذه السياسة رفع الحظر الكوري المديد على التبادل الثقافي مع اليابان، ولو بشكل جزئي، ما أتاح لقطاع الصناعة والتكنولوجيا الإفادة من الخبرات وموثوقية العلاقات التجارية اليابانية. وكانت (كوريا) قبل ذلك تعاني من ماضيها القاسي، كانت تعيش تحت حكم ديكتاتوريات عسكرية دموية تتبع قوى خارجية (حتى العام 1992)، وتصنف اقتصادياً (لا سيما في الستينيات) من أفقر دول العالم، إلى جانب غانا والسودان.

اللحظة الأخرى، بالغة التأثير، جاءت من خلال إقالة «وزارة الثقافة والإعلام الكورية» من مهمة التوجيه السياسي المعنوي الداخلي، وتحويلها إلى جهاز دبلوماسي يرعى مصالح وانتشار الثقافة الكورية في الخارج. وفي هذا السياق، تمت مراجعة السياسات الوطنية ذات العلاقة، ما أفضى إلى تقنين الرقابة، وتخفيف الاعتراضات الحكومية على المنتجات الثقافة والفنية والفكرية، في الداخل ومن الخارج.

وهذه بالطبع إجراءات سريعة النضوب، ومنابع سريعة الجفاف، ما لم يتم ربطها بموارد مستدامة، ولهذا زادت الحكومة الكورية الجنوبية من ميزانية التعليم والبحث والتطوير، وركزت، بشكل خاص، ووجهت التمويل والرعاية نحو مجالات الثقافة والإبداعات الفردية والتصميم والإنتاج والجودة الشاملة.

وكان الإعلام في صلب استراتيجية كوريا الجنوبية، وتحديداً الإعلام الورقي، وأثبت الرهان على الإعلام الورقي جدواه وأحقيته ونجاعته، لدرجة أن المثال الكوري الجنوبي يؤكد أن الوعي الاجتماعي والوطنية مرتبطان بـ«الورقية»، بغض النظر عن التأثر الظاهري بـ«الرقمية».

Email