الاقتصاد الثقافي.. الدولة منتجاً ومستتثمراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحدد خريطة لقطاع الاقتصاد الإبداعي، نشرتها الحكومة البريطانية في العام 1998، ثلاثة عشر مجالاً يتضمنها هذا القطاع، واستندت في تحديدها هذا على أنها مجالات تعتمد على الإبداع الفردي والمهارة والموهبة ولديها في الوقت ذاته القدرة على تكوين ثروة من خلال حقوق الملكية الفكرية. ويرد في تلك «الخريطة» أن الصناعات الإبداعية هي «تلك الصناعات التي تمتد بجذورها في الإبداع والمهارات والمواهب الفردية التي تتضمن إمكانيات واحتمالات كبيرة بالنسبة للثروات وخلق فرص العمل والوظائف من خلال التوليد والتطوير والاستغلال للملكية الفكرية».

تؤكد تلك «الخريطة» على أهمية الاقتصاد الإبداعي، بالإشارة إلى واحدة من المفاجآت التي كشفت عنها، في حينه، وتتمثل في أن هذا القطاع يولد فرص عمل تبلغ ضعف متوسط فرص العمل في الاقتصاد البريطاني ككل.

ويلاحظ في تلك «الخريطة» تأكيدها على الطابع والأساس الفردي، الذي تقوم عليه الصناعات الإبداعية، والإشارة المتكررة إلى «الملكية الفكرية»، وكذلك «خلق فرص العمل والوظائف من خلال التوليد والتطوير والاستغلال للملكية الفكرية». وهذا يفتح مسارات للحديث باتجاهين: الأول، أن قطاع الاقتصاد الإبداعي هو بيئة مناسبة لأصحاب المبادرات الفردية. والثاني، أنه مجال مفتوح أمام القطاع الخاص، بالدرجة الأولى.

بالطبع، إن تعزيز أي بيئة مناسبة لعمل أصحاب المبادرات الفردية، يقود بكل تأكيد إلى ازدهار في قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وهما، ضرورة لا غنى عنها لتحصين الاقتصادات وتدوير أنشطتها، وتجديد قوائم اللاعبين المتمكنين فيها.

أعمال جديدة

وبالنسبة للقطاع الخاص، يمثل الاقتصاد الإبداعي فرصة في الانفتاح على «موديلات» أعمال جديدة، واقتحام أنشطة اقتصادية مختلفة، واستقطاب نوعية جديدة من العمالة والكوادر. وبكلمات أخرى، فإن هذا يمثل تكيفاً حيوياً مع متطلبات اقتصاد المستقبل، الذي يركز على الابتكار، سواء كان في اختيار الأنشطة أو طبيعة الأداء أو في نوعية المنتج النهائي.

وباختصار، فإن التوجه نحو المبادرات الفردية، وتوجيه أنظار القطاع الخاص نحو الاقتصاد الإبداعي، هو استثمار في المستقبل وبالمواهب والموارد والمنتجات المحلية، وتحويل المقدرات الإبداعية إلى قيمة سوقية.

وهنا، يبرز سؤال: هل الاقتصاد الإبداعي هو حصراً مجال لعمل أصحاب المبادرات الفردية والقطاع الخاص..؟ أين دور ووظيفة الحكومات في هذا المجال..؟

ملكية فكرية

في الواقع، يخلق الحديث عن الملكية الفكرية وهماً بأن النشاط في قطاع الاقتصاد الإبداعي حكر على الأفراد والشركات. وهذا حكم يغفل أننا حينما نتحدث عن الملكية الفكرية، لا نتحدث فقط عن الملكية الفكرية للأفراد أو الشركات والمؤسسات، بل كذلك عن الملكية الفكرية الوطنية. وهنا، يمكن ملاحظة أن دول العالم تسارع بشكل متزايد على تسجيل مفرداتها التاريخية والتراثية والعمرانية والثقافية والفنية، المادية وغير المادية، في قوائم منظمة اليونسكو للتراث الإنساني.

وخلافاً لما كررته وأوحت به «الخريطة» البريطانية المشار إليها، فإن القطاع الإبداعي ليس حكراً على هاتين الجهتين فقط. بل إن هناك دوراً رئيسياً للحكومات، لا غنى عنه. وهذا الدور لا يقتصر على الرعاية والدعم وتوفير البنية التحتية اللازمة والدور التنظيمي عبر القوانين والتشريعات والحوكمة وإدارة العملية الاقتصادية الإبداعية، فقط؛ فالحكومات، بحكم عملها، وتبعاً لدورها متعدد الأوجه والأنشطة، يمكنها أن تكون مستثمراً، وكذلك منتجاً في مجال الاقتصاد الإبداعي؛ على سبيل المثال، من خلال أنشطة وعوائد المتاحف والفرق الموسيقية والتراثية والمهرجانات السينمائية والمسرحية ومعارض الكتب والفعاليات الثقافية الكبرى ومحطات التلفزة والإذاعة والصحافة والجوائز الإبداعية.

من جهة أخرى، تتحدد مجالات قطاع الاقتصاد الإبداعي وتعتمد قوته على طبيعة عدة عوامل، منها على الأقل: «رأس المال الإبداعي البشري»، و«البنية التحتية الإبداعية»، و«عوامل الاستهلاك الإبداعي المحلية»، و«وجود منافذ التصدير الإبداعي»، و«رأس المال التمويلي»، وقوة «الثقافة المحلية» أو وجود «ثقافة سائلة»، بمعنى ثقافة مشاع.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن «ثقافة محلية» أو «ثقافة سائلة»، بمعنى ثقافة مشاع، يمكن تسليعها وتسويقها، يأتي لأن الاقتصاد الإبداعي يقوم على خلق عوائد من الملكية الفكرية؛ ما يؤشر على أهمية وجود «بنية تشريعية» حديثة وعصرية، قادرة من جهة على ضمان الحقوق. وتؤمن، من جهة ثانية، إدماج مجالات هذا القطاع في الاقتصاد.

في الواقع، إن ما سلف، لا يؤشر فقط على البعد المحلي الحاسم في الاقتصاد الإبداعي، ولا يقتصر في إشاراته على تأكيد دور الأفراد والقطاع الخاص من مؤسسات وشركات، ولكن كذلك تعطي صورة عن الدور الشامل للحكومات في هذا المضمار.

ويمكن أن نلاحظ هنا أن قطاع الاقتصاد الإبداعي يجمع، كما لا يفعل غيره، أهم الأطراف الفاعلين في المجتمع: الأفراد والقطاع الخاص والدولة في نشاط واحد، ويشتمل في وجهيه على الجانبين: الروحي والاقتصادي.

ولعل مثل هذا القطاع، بميزته هذه، من أقدر القطاعات على تحقيق التكامل في المجتمع، وفي العمليات الاقتصادية. والأهم، أنه يتيح للحكومات أن تكون مستثمراً ومبدعاً، كذلك.

Email