نماذج رفيعة في أدب الرحلات

باريس في رسائل أبناء الخليج

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يزال الكثير من تاريخنا الثقافي غير بارز للجمهور، رغم اجتهاد المثقفين الأوائل لتوثيقه من خلال كتاباتهم ومراسلاتهم، التي ضمت الكثير من المعلومات والأخبار.

ومن أولئك الذين لهم أثر طيب في هذا المجال، الأديب المرحوم إبراهيم بن محمد المدفع (1983-١٩٠٩) أحد متنوري الإمارات ومثقفيها. ولقد كان لجهوده وجهود والده قبله الذي حاول جمع تاريخ الإمارات أثر كبير.

ولكن وافاه الأجل قبل أن يتم مشروعه، كما ذكر المؤرخ عبدالله بن صالح المطوع، عند شرحه لقصيدة إبراهيم المدفع «شرح نونية مفاخر القواسم»، حيث أوضح أن والده أول من فكر في جمع تاريخ الإمارات ووقائعه «وسافر من أجل ذلك...». وقال «... كما أن لابنه إبراهيم الفضل في تتمة ما جمعه والده وتبويبه وترتيبه...».

ولقد خلف لنا إبراهيم المدفع الشيء المهم، وبجهود ابنه المهندس عبدالله المدفع الفضل في جمع ما تركه والده وإنشاء موقع إلكتروني، ضم قصائده ورسائله.

«يالجمال باريس»

من بين هذه الرسائل، نجد هذه الرسالة التي نحن بصددها اليوم، والتي جاءت موقعة من شخص يدعى أحمد محمد إبراهيم، وموجهة من باريس في 11 محرم 1343هـ (11 أغسطس 1924م) إلى المرحوم إبراهيم المدفع، حيث يقول في مقدمتها (إلى حضرة سيدي وأخي الماجد الهمام إبراهيم بن محمد المدفع حفظه الله، آمين)، ولقد بحثت عن اسم المرسل فلم أجد من يعرف عنه شيئاً ولا عن عائلته.

ولكني وجدت خيطاً رفيعاً للاستدلال عليه، حيث ذكر في الصفحة الثالثة من رسالته اسم شخص كان بمعيته عندما زار ميدان الأوبرا (بمعية السيد المفضال أحمد المنور الرفاعي) وبما أن اسم عائلة الرفاعي من الأسماء المشهورة في الكويت فقد تواصلت مع الدكتور عبدالله يوسف الغنيم رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية مستفسراً، فأمدني برسائل متبادلة من الكويت مع أناس في الإمارات.

رسالة من السيد أحمد العبد اللطيف الحمد من البصرة إلى دبي في ربيع الأول 1362 هـ - ١٤/‏٣/‏١٩٤٣ موجهة إلى السيد أحمد المحمد إبراهيم في دبي، ورسالة موجهة من بومبي إلى دبي في 27 صفر 1342 هـ - ٤/‏٣/‏١٩٤٣ م من فيصل الأحمد المحمد إبراهيم.

​من ذلك يتضح لنا أن مرسل الرسالة من باريس هو أحد التجار بالكويت. ورسالة أخرى موجهة من الكويت إلى دبي في 27 صفر 1342هـ - ٤/‏٣/‏١٩٤٣ م من فيصل الأحمد إلى أحمد المحمد الإبراهيم.

​طبقاً لذلك يتبين لنا أن مرسل الرسالة من باريس هو أحد التجار الكويتيين الذين كانوا مقيمين في دبي، ويتعاملون في تجارة اللؤلؤ، وارتبط بعلاقة مع إبراهيم المدفع سليل عائلة المدفع التي اشتهرت بالتجارة في اللؤلؤ فقد كان أحد أفرادها (عبدالله بن حسن) يقيم في بومباي الهند، وعن طريقه يتم تسويق بضاعة التجار من اللؤلؤ.

حال السوق في عاصمة الأنوار

​أعود إلى رسالتنا موضوع الحديث، فهذه الرسالة جاءت واصفة حال السوق في باريس في ذلك الزمان وما صاحبها من فتور حيث يقول: «سيدي بخصوص بضاعتنا فقد بعنا جانباً يسيراً منها، والباقي لغاية الآن متأخر لأسباب فتور السوق في باريس، وقصور الأثمان قصوراً فاحشاً، لا يمكن قبوله، وبعونه تعالى نرجو تحسن الحال وتصريف الباقي»، ثم يبدأ في وصف باريس، حيث يقول: وها أنا أصف باريس بحسب ما يسمح به خاطري:

أولاً: ​إن أول ما يلفت نظر الشرقي حين تطأ قدمه لأول مرة أرض فرنسا هو الجمال، والجمال في الطبيعة على الأخص. مروج خضر قد اكتست أرضها بطبقة سندسية من النبات والأعشاب البهيجة، أشجار باسقات ماضية في السماء طلعها كأنه رؤوس الشياطين، وقد اشتبكت غصونها في نظام يأخذ بالألباب، وزهت نضرتها وسط المروج في لون خلاب. جبال عالية قد تلفعت بثياب خضر، من الحشائش، وزينت قممها بأشجار كأنما هي تيجان تزهو فوق هذه الرؤوس العالية. أنهار جارية، مضت تتلوى هنا وهناك، وقد أخذت حظها هي الأخرى على شاطئيها من الأشجار والنبات.

ويتابع:

ثانياً: ​بلد النور والجمال حقاً باريس عروس المدائن، قصور شامخة تناطح السحاب كأنما هي أبراج في هندسة متقنة بديعة الإحكام. تماثيل قد نصبت في كل ناحية من النواحي للقادة والفلاسفة والكتاب.

فهذا لامارتين كأنما هو واقف على شاطئ البحيرة ينادي حبيبته جوليا بأعلى صوته أن تأتي إليه لتطفئ في فؤاده لوعة غرام أشعلها الفراق، ولكن الموت قد أسكت لسانها السكوت الأبدي فلم تستطع الجواب. وهذا فكتور هوجو كأنما يصرخ في وجه نابليون وقد توج طفله إمبراطوراً على روما، أن ويحك أيها المغرور، مهما بلغت من العظمة فما أنت بعالم ما يخبئ لك الغد.

وهذا روسو كأنما هو يعلن حربه الشعواء على المدنية وريائها الذي أفسد الطبيعة، وأطفأ الأخلاق الطاهرة. وهذا دانتون كأنما ينصب الجلوتين لقص رقاب المارقين عن دين الوطن. تلك هي تماثيل هؤلاء العظماء، بدت في ثوب سابغ من الجلال، وصمت أبدي يحدثك عن عظمتهم وجلالهم، ويؤمي إليك من ذكرياتهم ما تقصر دونه أبلغ مقالات الكتب.

ويستكمل صاحب الرسالة شرحه:

​ثم ما هذه الحدائق الزاهرة كأنما هي لوحات أوحى رسمها خيال عظماء المصورين فنمقوها وزينوها بما شاء خيال الشعر والجمال. يرى المرء فيها أنواعاً من الزهر، وألواناً يعجب كيف قدرت ريشة الطبيعة العظيمة على التمييز فيها وابدائها في هذا المعرض من الجمال، وألفافاً من الشجر تميل غصونها دلالاً وتيها، وبحيرات يتدفق ماؤها في رنين كنغمات الموسيقى، جمال يتلوه جمال وعظمة وجلال، فيا ويحك يا باريس ماذا أردت بهذا كله؟! أأردت أن يقول الناس لأهلك ما قال ابن خفاجة لأهل الأندلس:

​ما جنــــــــة الخلـد إلا في دياركـــــــــم

ولو تخيـــــــــــــرت هـــــــذا كـــــنت أختـــار

​لا تحسبوا بعد ذا أن تدخلوا سقرا

فليس تدخل بعد الجنة النــار

ويستطرد مرسل الرسالة:

​أم أردت أن تجذبي إليك الأجانب، وها أنت ذي تجمعين إلى أربعة الملايين من سكانك أمما من كل نواحي الأرض، حتى كدت بمن فيك تزورين، ثم ما هذه الحركة الدائبة كأنما الناس في يوم الحشر كسيل يموج بعضه فوق بعض، وكأنما كل امرئ يخاف أن يفوته القطار. الناس هنا دائماً في حركة وجيئة وذهوب، مما ينطق بنشاط وحيوية، تدهش الشرقي الذي اعتاد على الهدوء والسكون.

على النسق ذاته

​إذاً هذه الرسالة تحاكي ما فعله رفاعة الطهطاوي عندما أرسله محمد علي باشا إلى باريس مرافقاً للبعثة التعليمية عام 1831-١٨٢٦، ليكون واعظاً وإماماً لهم، فكتب كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».

​تتميز الرسالة ببلاغة كاتبها، وحسن أسلوبه، ودقة تسلسل الوصف لديه، بالإضافة إلى خبرته ومعرفته بالتاريخ والأدب والثقافة العامة فهي من أدب الرحلات.

ومن بدائع ما جاء في الرسالة:

«يا لجمال باريس»

​إذا ذهبت إلى نهر السين الذي يشق باريس شقاً لوجدت الماء وعليه البواخر تمخر، والمياه تتكسر على الجوانب من الحركة التي لا نهاية لها. فيا لجمال باريس، حوت كل شيء فكر فيه الإنسان أو تخيله، ولكن ذلك للأسف الشديد لا نراه بشيء لعدم وجودكم ووجود الأخ حسن بن عبدالرحمن معنا، ولإقامتنا فيها على غير خاطر منا.

في ميدان الأوبرا

ذهبت إلى ميدان الأوبرا بمعية سيدي المفضال أحمد المنور الرفاعي، فإذا نحن إزاء حركة غريبة، فكأنما أمطرت السماء سيارات، وكأنما أنبتت الأرض أناساً نزخر أفواجاً كسيل طاغ، في ازدحام وضجة، وإذا سألت ما الخبر قيل لك إنها حركة عادية. يا سبحان الله ما أقدر هذا الجند على ضبط هذه الحركة بدقة ونظام.

ترى المترو (سكة حديد تحت الأرض) يزلزل الأرض تحت قدميك، وقطارات السكة الحديد قد احتلت ما فوق الأرض وما تحتها، والترام قد اخترق كل نواحي باريس. والجو مملوء بالطيارات، حتى لتشفق أن تنسف هذه الحركة أرض باريس.

​إذا ذهبت إلى نهر السين الذي يشق باريس شقاً لوجدت الماء وعليه البواخر تمخر، والمياه تتكسر على الجوانب من الحركة التي لا نهاية لها. فيالجمال باريس، حوت كل شيء فكر فيه الإنسان أو تخيله، ولكن ذلك للأسف الشديد لا نراه بشيء لعدم وجودكم ووجود الأخ حسن بن عبدالرحمن معنا، ولإقامتنا فيها على غير خاطر منا.

Email