بين سؤال وآخر، تستغل هند صبري برهة الانصات، لكي تواصل احتساء القهوة. من مكانها في باريس، ومن خلف الشاشة التي أجريت عبرها مقابلة الـ «أونلاين»، مع «البيان»، ينسكب ضوء غامر من طرف نافذة، يضيف إلى بساطة هيئة النجمة، غير المتكلفة، هالة من التلقائية والطبيعية، تحيلنا مباشرة إلى شخصيتها الأثيرة إلى قلوب الجمهور وقلبها أيضاً.. علا عبد الصبور: «أنا أشبهها كثيراً، ولو كان مسار حياتي قد حاد عن قدرية التمثيل، ربما كنت لأكون هي، في الواقع».

عيون محدّقة

وهند، في الصباح الفرنسي اليانع، تسرّب قهوتها إلى شرايين التنبّه، وإنما تثبت عينيها من خلف حافة الفنجان، في مرمى النظر، مباشرة في عين السائل. منذ زمن بعيد، ربما، من بدايات طفلة موهوبة، طلب منها أن تؤدي أمام الشاشة في تونس، وهي لا تتجاوز الـ 14 سنة، إيماءات تحريك شفاه فائقة التدريب على وقع أغنية لأم كلثوم، تعلّمت الطفلة جيداً موهبة التحديق.. بجرأة وشجاعة.

ليس هناك ما يخيف هند فعلاً، وهي لا ترغب بأن تخفي شيئاً، لأنها، بكل بساطة، عالجت أوهام الشهرة وخطر أمراضها باكراً جداً، إلى الحد الذي بوسعها عنده أن تصف، اليوم بكامل التواضع والتبسيط، مسيرة عقدين من الزمن، بـ «لعبة التجريب».

«اللعب مع الكبار»

منذ بروزها الأول في فيلم «صمت القصور» (مفيدة التلاتلي 1994)، في دور شخصية «عليا» (سمت ابنتها البكر بهذا الاسم، تكريماً لتلك اللحظة الحاسمة في حياتها)، ثم مع مطلع الألفية على ساحة «هوليوود الشرق»، تمكنت صبري، أن تكرّس مكانتها كإحدى أمهر بنات جيلها انتقاء للأدوار التمثيلية، التي جمعتها بممثلين بموهبة واجتهاد عادل إمام وأحمد بدير ومحمود عبد العزيز ومحمود حميدة.

ومخرجين ببصمة وروح محمد خان وداوود عبد السيد ويسري نصر الله وكوثر بن هنية، على ساحتي القاهرة وتونس.. وهي تصف شغفها السينمائي ذلك، وجهدها الواضح، بـ «اللعب»:«أحب أن ألعب. هذا لا يحيل، بطبيعة الحال، إلى قلة نضج أو التزام، بل يعني أنني منفتحة دوماً على التجريب، وعلى التواصل مع جمهور متنوّع الذائقة الفنية».

وإذا ما تابعنا النشاط الفني لصبري خلال الشهور الماضية، سنتثبت، بلا شك، من مساحة «الملعب الكبير»، الذي «تنط» فيه، بطاقة نابضة: من «البحث عن علا» (هادي الباجوري، 2022)، الذي حقق نجاحاً ساحقاً عبر منصة «نتفليكس».

وقامت هي بإنتاجه، إلى فيلم كوميدي مقبل العرض من نوعية «أفلام الشباك»، مع الممثل ماجد الكدواني، إلى آخر «أكثر جدية وتجريبية»، مع مواطنتها الحائزة على جوائز عالمية، كوثر بن هنية، وصولاً إلى فانتازيا مروان حامد وأحمد مراد «كيرا والجن»، بإنتاج يعد من الأضخم في تاريخ السينما العربية، وينتظره الجمهور:

«تستهويني بالطبع الأفلام التي تحمل فلسفة وقضية، وقدمت «جنينة الأسماك» و«مواطن ومخبر وحرامي» و«الببغاء»، وغيرها الكثير، لكنني أيضاً أتوق للأفلام التي لها وقع لطيف على المشاهد، إذ لا يجب علينا أن ننفي أبداً عن السينما وظيفتها الأولى، وهي الترفيه، لذلك، تجدني أحب التنويع في أدواري».

نهج خاص جداً

في مساحة الفلسفة، تبتسم هند حين نذكرها أنها تنتمي إلى البلاد التي ولد فيها وعاش، من وصف يوماً بأنه «كتب أعظم ما يمكن أن يكتبه إنسان في أي زمان ومكان»، المفكر ابن خلدون.

هناك في زقاق مديد، من أزقة «المدينة العتيقة» في تونس، والمسمى اليوم «نهج البايات»، انسكب ضوء الاستنارة مبكراً، على الرجل الذي سيتحدث كثيراً في مقدمته عن «العصبية»، ويُرجع جزءاً كبيراً من مشاكل المجتمعات، إلى عدم قدرتنا على تفكيكها. هل يحمل «نهج هند صبري» فكراً يحارب «العصبية الجندرية»، من خلال شخصيات مثل «علا عبد الصبور»:

«أنا بالطبع نسوية في فكري وممارساتي، ولا أجد مكاناً للعصبية أو مواجهتها في ما أفعله، وأفضل القول بدلاً من ذلك، أنني وجدت مساحة فارغة في الرواية العربية الدرامية، تتعلق بالنساء، ثم عثرت على فرصة وتوقيت جيدين لأن أشغلها، وأريد أن أستمر في ذلك».

تؤمن هند بأسلوب «يا واش يا واش»، أو «حبة حبة»، أكثر من فعل الصدمة، حين يتعلق الأمر باستخدام وسيط السينما والتلفزيون، من أجل إعادة تصميم الأفكار في مجتمعات «لا تزال تتحاشى رؤية ذواتها في مرآة شفافة»: «لقد استغرق مني هذا البحث، سنوات طوال في مسيرتي، وجربت سابقاً فعل صدمة المتفرج لتحريك أفكاره، وتحديداً في السينما التونسية، لكنني أؤمن اليوم أكثر، بأن التغيير يحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر ومستدام، يراعي الحساسية والتوقيت والوسيط بذكاء».

بريق قابس

في هذا السياق، بوسعنا أيضاً أن نفسر سبب اختيارها للفيلمين الكلاسيكيين «البداية» و«الأرض»، لكي يعرضا على جمهور الجنوب التونسي وضيوفه، خلال فعالية «تعالَ شوف»، ضمن الدورة الرابعة من «مهرجان قابس سينما فن»، الذي ينطلق خلال الأيام المقبلة: «فيلمان رائعان، يقولان كل شيء تريد أن تعرفه في التاريخ والسياسة والمجتمع، ولكن عبر أسلوب الحكاية التي تنسج فضاءها العاطفي، كشبكة تهيمن على روح وعقل وقلب المتفرج».

الرئيسة الشرفية للمهرجان السينمائي المختلف بتوجهاته وروحه، تشعر بفخر بأن السينما عادت إلى مكان أغلقت فيه صالات العرض لأكثر من ثلاثة عقود، وأنعشته مسيرة عروضات سينما ورقمنة وفيديو، عمرها لليوم أربع سنوات، تحب مديرة المهرجان، فاطمة الشريف، أن تطلق عليها عنوان «انقلاب الصورة». تقول صبري: «وظيفة السينما الحقيقية، أن تجعل المشاهد، سواء رأى في الفيلم ما يشبهه أو لا يشبهه، يظل مرتبطاً بخيط المعنى لما يشاهد».

في الزمن الذي تشعل فيه الحروب والصراعات سنابل القمح، فيعز الرغيف، وفي الزمن الذي تنتصب فيه أسئلة الهوية والهجرة والانتماء في وجوهنا، مثل بروق تشرخ سماءنا، هل يكون هناك أبلغ وقعاً وأشد إيثاراً من استرجاع تحفتي يوسف شاهين وصلاح أبو سيف السينمائيتين؟.

في هذا الزمن تحديداً، تحاول صبري أن تستثمر شهرتها، ورصيد المودة مع الجمهور، للفت النظر إلى قضايا شائكة، مثل التغير المناخي، وشح الغذاء، وتأثير ذلك على جوع ومرض وموت الملايين حول الأرض.

في الكلمة التي ألقتها، الصيف الماضي، خلال تسلمها شارة وشهادة «نوبل»، من «برنامج الأغذية العالمي»، التابع للأمم المتحدة، بوصفها سفيرة نواياه الحسنة، قالت: «آمل أنه في يوم من الأيام، لن يقلق أحد بشأن حصوله على وجبته التالية.. أنا أخبر ابنتيّ (علياء وليلى)، عن عملي مع برنامج الأغذية العالمي، وزياراتي إلى مخيمات اللاجئين، وأن الجوع ليس أمراً منفصلاً عن الجهل ولا الحرب، وجميع الأشياء السلبية التي تحصل في العالم».

تقول:«لا أبخل بجهدي الذهني ولا الجسدي، للعب دوري الإنساني». دور يكاد اليوم، بفعل منصات التواصل الاجتماعي (ظهرت مؤخراً في إعلان لبرنامج الغذاء، شاهده الملايين على المنصات في رمضان)، ومنصات المشاهدة، لا يعترف بحدود أو عرق أو جنس: «ملايين الرسائل كتبت، وكثيرة تلك التي وصلتني، تعليقاً على شخصية علا عبد الصبور. وصلتني رسائل من نساء شاهدن المسلسل على نتفلكس، في جنوب أمريكا مثلاً. قضاياهن تتوحد مع قضايانا. قضية الإنسانية واحدة في كل مكان».

أليس هذا ما تحدث عنه وليد تونس المبجل، صاحب «العبر وديوان المبتدأ والخبر»، قبل أكثر من 600 عام؟: «النوع الإنساني لا يتم وجوده إلا بالتعاون»، يقول ابن خلدون. مع توق دائم للاستنارة، تمضي هند في مسيرتها، بذهن متنبه، وعيون مفتوحة على الفضول والاكتشاف والصدق، ونفس تواقة، عبر الفن.. لمد يد العون!