أصدرت سيرتها الذاتية لتضيء على 50 عاماً من تاريخ مصر والحرف اليدوية

عزة فهمي: في «جبال الهيمالايا» وجدت إجابات لأسئلة حيرتني

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

حدث ذلك في القاهرة قبل 50 عاماً. صبيّة بملامح جنوبية أصيلة تتجه بخطى ثابتة إلى أزقّة منطقة «خان الخليلي» التاريخية، ذات الهيمنة الثقافية الذكورية المعتادة على مرافق العمل والخدمات، وتقول بصوت واثق: «أنا عزّة. أريد أن أكون صنايعية. أسطة مثل أسطوات الصناعة»!

وهكذا، كان.. لأنّ أحلام عزّة فهمي، صانعة الحلي الأشهر في العالم العربي، والتي يرتدي مشاهير العالم إبداعاتها، وتباع قطعها في متاحف العالم ومعارضه، هي «أحلام لا تعرف الحدود».. كما يشير عنوان كتاب سيرتها الذاتية الصادر مؤخراً، والذي شهدت حفل توقيعه في الدورة الأخيرة لمعرض «الشارقة الدولي للكتاب».

الكتاب شكّل وثيقة تاريخية واجتماعية وحضارية عن نصف قرن من تاريخ مصر والعالم العربي، وتاريخ الحرف اليدوية وغناها الآخذ إلى الأفول، لكن ليس في خطط ورؤى فهمي التي يعمل لديها أكثر من 285 موظفاً يشاركون في عملية إنتاج آلاف القطع!

الإدراك الأول

وفيما تشترط النظريات العلمية الحديثة لأي عملية فنيّة ثلاثة عوامل هي: الإدراك والإبداع والقوة البدنية، فإن فهمي لا شك أنها حظيت بالعامل الأول في وقت مبكر من حياتها: بالطبع، الإدراك الحقيقي الواضح عندي كان.. لرغبة التعلّم. أنا في الأساس خريجة جامعة فنّية ولديّ الإلمام النظري ولكن كنت أريد صقله بتعلّم «الصنعة». أردت أن أذهب لأوروبا ولكن ضيق الإمكانات منعني من ذلك. ثم وجدت حلاً بسيطاً، كعادتي التي تشبه شخصيتي بعدم تعقيد الأمور: أن أذهب إلى ورشة «صنايعي» وأتعلّم لديه. أن أكون «صنايعية» (محترفة عمل يدوي) امرأة. وفي ذلك الوقت كان هكذا تصرف ليعتبر غريباً في بيئتنا.

الأب وتأثيره

من غذّى هذا الإدراك لدى صبيّة في مقتبل عمرها، وفي زمن سادت فيه ثقافة «الوظيفة المثالية» والتخوّف من «المغامرة الفنية الإبداعية»؟ تترقرق دمعة في عينيها لدى استحضار سيرة رجل مؤثر في تكوينها، تعكس ربما رغبة لديها، لم تتحقق في أن يكون شاهداً على نجاحاتها العالمية: الأب الذي خطفه الموت مبكراً: «كان موظفاً في منصب عال في منطقة الصعيد في جنوب مصر. وكنت في طفولتي متأثرة بشخصيته وخصاله في الاتصال بالعالم المحيط به، بمرؤوسيه، والسائقين في العمل، وتلك الجولات التي يقوم بها في الأماكن والشوارع. نصحبه إلى أديرة وإلى معابد وفي مرات يوقف سيارته لكي يتحدث إلى بسطاء على قارعة الطريق يبيعون منتجاتهم في أكواخ القش ويفتح مع المزارعين نقاشات عن زراعتهم، ويجعلني أنا وإخوتي أقترب منهم، لكي أتعرّف على الخضراوات والفواكه في أشكال أشجارها ونباتاتها وجذورها. كانت شخصيته ملهمة وفضوله وتبسطه وحبه للناس والتواصل معهم. إلى يومنا هذا، حين أحاذي حقلاً أو بستاناً، تجري الدموع سريعاً في مقلتيّ، وأجد نفسي أعود تلك الطفلة التي علمها أبوها على أسماء الأشياء: هذا جرجير. هذا قمح. هذه ذرّة».

الثروة الحقيقية

إضافة إلى تلك الذكريات، تستعيد فهمي ذكرى أخرى لا تقلّ رسوخاً لديها: «بعد عملي في الورشة، أصبح لديّ مبلغ متواضع من المال، اشتريت به كميّة بسيطة من الفضة، وصنعت خمسة خواتم، واحتفى أصدقائي بي وساعدوني لأبيعها وشعرت بأنني حصلت على ثروة»!

ثروتها الحقيقية هي حبها للعمل الذي يخرج من بين أناملها، والذي يصل إلى درجة الافتتان: الافتتان عندي يبدأ من علاقتي بالموضوع الذي أختاره لمجموعة جديدة من الحليّ. عليّ أن أحب هذا الموضوع وأختاره ثم أقع في «غرام» أي قطعة تخرج من تحت يديّ وتعبّر عنه. سواء كان الموضوع مستوحى من شعر وتأملات ابن حزم الأندلسي صاحب «طوق الحمامة» أو من الشعر الجاهلي أو الحديث، أو كان الموضوع فرعونياً أو مملوكياً، أو حتى محاكيا لفلسفة وروحانيات جبران خليل جبران، فإن عامل الافتتان يجب أن يكون موجوداً.

رحلة الافتتان تلك دفعتها لأن تسأل نفسها سؤالاً لطالما حيّرها، لتجد إجابته في ممارسات التأمل والارتقاء الروحاني التي تنتهجها خلال العقدين الماضيين وأوصلتها إلى جبال الهيمالايا الهندية: سألت نفسي لماذا أشعر بتلك العاطفة العميقة تجاه القطع التي أصنعها. أشعر أنه بوسعي أن أتحدث إليها وتتحدث إليّ كما يفعل رسّام مع لوحته. أذكر أن مدربتي في عالم التأمل وضعت يدها على منطقة قلبي، وأجابتني عن السؤال، وهي تشير إلى كف يدي قائلة: لأنّه لدينا قلب في داخلنا ولدينا قلب آخر في يدينا! لاحقاً ربطت بين هذا الكلام وبين كلام قيل لي من زبائن كثر عن تأثير ارتداء قطعي على أمزجتهم وطاقتهم.

ولكن كيف أثر هذا الانغماس في العالم التأملي على عملها: أمارس رياضة التأمل مرتين في اليوم. هو سيل هدفه غسل النفس وإعطاء الأفكار المتأرجحة باستمرار في الدماغ فرصة الاستكانة قليلاً: «بترجع شخص جديد».. التأمل يقوّي الجهاز العصبي وهذا له تأثير على شحذ الطاقة الإبداعية والبدنية.

المادة والشكل

في العمق الفلسفي لمهنة فهمي على مدى العقود الماضية يمكن استحضار مقولة بالمعلم أرسطو الذي وضع توصيفاً لصنعة الحرف اليدوية معتبراً إياها وسيلة لـ«جلب الشكل إلى المادة».

وهي، على ما يبدو، قامت بهذا العمل على خير ما يرام. جلبت أشكالاً من عصور سابقة وأعادت لها الحياة في العناصر التي تصنع منها حليها، وألقت بها لأبناء العصر الحديث، كرموز وإشارات سحرية تدلّهم على طرق الأولين المبدعين.

تعلّق: يتجسّد ذلك لي تماماً في مشهد صبية عمرها سبع عشرة سنة تجتاز عتبة المعرض لدينا وتسأل بثقة: «أين هي قطعة الحلاج، أو ابن عربي؟». إنها لا تعرف القطعة فقط لأنها سمعت عنها أو قرأت خبراً على الإنترنت، ولكنها تعرف أيضاً من هو «ابن العربي» ومن هو «الحلاج»، وربما يكون للحلي فعلاً دور في جعلها تتلقف هذه المعرفة. هذا من دون شك يشعرني بالسعادة. أنا لا أصنع مجرّد حلي، ولكن أعيد مد جسور إلى المعرفة التي قد يكون الجيل قد قطع الاتصال بها. لذلك يطلق البعض على عملي لقب «الحلي المثقفة».. مثقفة أم نخبوية؟ تضحك:أفضل القول «المثقفة» لأنها ليست حكراً على النخب«!

مشاركة

تشارك صانعة الحلي عزة فهمي في الدورة المقبلة من»مهرجان طيران الإمارات للآداب" في فبراير المقبل وتوقّع كتاب سيرتها الذاتية.

Email