أغوتا كريستوف صنعت مجد كتابتها عبر تاريخ من المعاناة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تشبه الهنغارية أغوتا كريستوف صاحبة ثلاثية (الدفتر الكبير)، ومؤرخة الحرب في كتابها «الأمية»، الذي تروي فيه سيرتها ككاتبة، شغف القراءة لديها بالمرض، فتقول في فصل البدايات: «أقرأ.. الأمر أشبه بالمرض، أقرأ كل ما تقع عليه يداي أو عيناي، جرائد، كتب مدرسية، ملصقات، قصاصات ورق مطروحة في الطريق، كتب أطفال، وصفات طبخ، كل شيء مطبوع..».وإذ تفاجئنا بقولها «أنا في الرابعة، و«الحرب» قد بدأت لتوها»، نعلم أنها كانت تعني الحرب العالمية الثانية، التي غيرت مسار حياتها وعائلتها تماماً، لتجد نفسها في رحلة تنقل، قادتها في نهاية الأمر من بلدها هنغاريا، إلى إحدى البلدات السويسرية كلاجئة، ومن ثم كعاملة في أحد مصانع الساعات السويسرية!

لقد تركت أغوتا كريستوف بلدها وهي في سن 21، مع زوجها وابنتها الرضيعة ذات الأشهر الأربعة، كانت كمن يعيش في منفى، تماماً، ولم تتخلص من إحساسها ذاك إلا حين تركت مصنع الساعات، وتفرغت للكتابة باللغة الفرنسية، وبإصرار شديد، أنتج فوزها بجوائز عديدة على مستوى القارة الأوروبية. إن الإصرار الذي تعلمت به أغوتا كريستوف اللغة الفرنسية وعلاقتها بهذه اللغة، يعتبر مرحلة لا يمكن المرور عليها بالنسبة لهذه الكاتبة، فأطلقت على تلك المرحلة «مرحلة الأمية»، وهي الفتاة التي ولدت في وطنها وسط بيت كان فيه والدها معلم القرية الوحيد، ما جعلها تتقن القراءة في سن الرابعة! هذه دعوة لنطل معاً على رواية «الدفتر الكبير»، التي سجلت فيها أغوتا حكاية طفلين وسيرة حرب بشعة، لنرى كيف عالجت موضوعة الحرب، وما فعلته تلك الحرب بهما؟! ليس من شيء يستطيع أن يجعلنا نفغر أفواهنا برعب، ونفتح أعيننا بهلع، ونحن نقرأ عن الحرب، وكأننا نشهدها فعلاً، إلا الأدب والروايات التي تأخذنا بقسوة لتلقينا على حافة مناطق الحروب ومعسكرات التعذيب وغارات الطائرات، وهي تلقي القنابل على رؤوس السكان في بيوتهم وحدائقهم، فيتشظون في أمكنتهم، ويدفنهم أبناؤهم في الحفرة نفسها التي أحدثتها القنبلة في الحديقة، ويهيلون عليهم التراب، ثم ينصرفون لتناول الغداء، هكذا، وبهذه القسوة المتجردة من أي مشاعر وانفعالات، تزج بنا الروائية المجرية أغوتا كريستوف، في خضم روايتها البديعة «الدفتر الكبير»!

بمهارة قاسية، تسجل الكاتبة يوميات حياة طفلين توأمين في السادسة من عمرهما، تودعهما والدتهما عند جدتهما المشعوذة البخيلة، لأنها أصبحت عاجزة عن إطعامهما وحمايتهما من ويلات الحرب، فيعيش الطفلان ظروف الحياة القاسية، في ظل الحرب، مع جدة بخيلة وبشعة، ويتقبلان كافة اشتراطاتها. إن الكاتبة لا تسمي أحداً من أبطال روايتها، ذلك أن دمار وتشويهات الحرب، يمكنها أن تطال الجميع حيثما وُجِدوا، وبالطريقة نفسها! لا تكتب أغوتا كثيراً عن القتلى والغارات والمقابر الجماعية ومعسكرات التعذيب، لكنها تكتب بطريقة ضربات سكين مؤلمة، كيف يتفتح وعي الصغيرين خلال الحرب، على انهيار أخلاق الأم والجدة والأب والجارة والضابط، والجميع دون استثناء، إنها أخلاق الحرب، التي تدمر ما هو أهم من البيوت، لقد لوثت الحرب طفلي أغوتا في الرواية، وغيّرتهما، ومحت كل أثر للطفولة والبراءة فيهما، ودفعتهما لأسوأ ما يمكن تصوره! تفعل أغوتا كريستوف ذلك بلغة ساحرة، وبأسلوب سردي، قلّما تكتب به رواية تتحدث عن الحرب! ولدت أغوتا كريستوف في هنغاريا عام 1935، وتوفيت سنة 2011 في سويسرا، قبل وفاتها بسنوات، دخلت في حالة اكتئاب وشعور بانعدام الهدف من أي شيء، فتوقفت عن الكتابة نهائياً، قائلة: «لم تعد الكتابة تمنحني شيئاً». توفيت في صمت تام، في منزلها، في إحدى ضواحي سويسرا.

Email