في قلب هونغ كونغ الصاخبة، حيث يلامس الماضي الحاضر، تتجلى حكاية فريدة من نوعها فكل صيف، وفي ذروة الحرارة، يصعد مئات من عمال البناء والمهندسين إلى "معبد لو بان"، ليس لطلب مكافأة، بل لتقديم الولاء لروحٍ عمرها قرون.
"لو بان"، نجار أسطوري من سلالة تشو القديمة، أصبح قديساً وراعياً للبنائين، ومصدر إلهام لـ"رجال العنكبوت" في المدينة، الذين ينسجون ناطحات السحاب بخيوط من الخيزران.
في هذا المعبد الصغير، الذي يفوح منه دخان البخور، تُرفع الصلوات ليس فقط من أجل الرزق، بل من أجل الحفاظ على روحٍ حرفيةٍ لا تقبل الاندثار.
من المعبد، يبدأ المشهد الأكبر، أوركسترا من الخيزران تسيطر على أفق المدينة، فبين الكتل الخرسانية والزجاجية لناطحات السحاب الحديثة، تُقام هياكل شبكية من أعواد الخيزران، وكأنها عظامٌ خضراء تُحيط بالبنايات.
هذه السقالات، التي تبدو هشة وضعيفة للناظر، هي في الواقع قوية ومرنة، تُثبت بخفة ودقة لا تُصدق، وتتحول إلى شرانق ملونة من شبكات الأمان.
إنها لغة بصرية خاصة بهونغ كونغ، حيث يُبنى المستقبل بأدوات من الماضي، وحيث تتناغم التكنولوجيا مع فنٍ عمره آلاف السنين.
لقد ظل الخيزران هو البطل المجهول في قصة المدينة، حيث ساهم في بناء أهم معالمها مثل مقر بنك HSBC ومركز التمويل الدولي.
وتتجاوز أهميته الجانب الإنشائي إلى الجانب الثقافي، حيث يتم استخدامه في إقامة مسارح الأوبرا الكانتونية المؤقتة في احتفالات المدينة المحلية، ليصبح رمزاً حياً لهوية المدينة التي لا يمكن أن تنفصل عن جذورها.
لكن هذه الروح المبدعة تواجه تحديات وجودية، ففي عالم يتجه نحو الصلب والمعدن، يُنظر إلى الخيزران كخيار غير آمن.
وقد دفع هذا الجدل بعضاً من المسؤولين الحكوميين إلى الدعوة لاستبدال هذه التقنية، مما أثار موجة من القلق والغضب في قلوب السكان الذين رأوا في هذا القرار نهاية حقبة.
منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي حصدت الآلاف من الإعجابات، تدعو الناس إلى تصوير السقالات قبل أن تتحول إلى "جزء من الماضي".
هذه المخاوف لم تكن مجرد رد فعل عاطفي، بل تعكس صراعاً بين قيمتين: كفاءة المعدن وصلابته، ومرونة الخيزران وجمال حرفيته.
فبينما يمكن لأي عامل أن يكتسب مهارة استخدام السقالات المعدنية في وقت قصير، فإن إتقان حرفة الخيزران يتطلب سنوات من الممارسة، و"حساً فطرياً" لا يمكن حسابه بالأرقام، كما يقول غومان هو، المهندس الإنشائي المخضرم.
لكن القصة لم تنتهِ بعد، ففي ظل هذا التحدي، يتجلى الأمل في مشهدٍ عالمي، ففي بينالي البندقية، أكبر معرض معماري في العالم، تم الاحتفاء بمهارة هونغ كونغ الفريدة، حيث سافر أحد عشر "سيفو" (معلماً) لبناء هيكل من الخيزران أدهش المهندسين الإيطاليين، الذين لم يستطيعوا فهم كيف تم تجميعه بهذه الدقة والسرعة دون حسابات معقدة.
كانت هذه رسالة للعالم بأن هذه الحرفة ليست مجرد "تقنية بدائية"، بل هي فن لا يمكن ترويضه بالأرقام.
ويؤكد المسؤولون في النقابات أن السقالات الخيزرانية ليست غير آمنة، وأن المشكلة تكمن في الجهل بقيمتها. وفي النهاية، قد يكون الحل في دمج التقاليد بالحداثة، حيث يرى قادة الصناعة أن المستقبل هو في الهياكل الهجينة التي تجمع بين قوة المعدن ومرونة الخيزران.
وفي هذا المزيج، يرى الشباب في هونغ كونغ فرصة ليس فقط لكسب الرزق، بل للحفاظ على ما تبقى من هوية مدينتهم، في مشهد يعكس روح هونغ كونغ نفسها: مدينة لا تتوقف عن التطور، ولكنها لا تنسى أبداً من أين أتت.


