تميز الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بتحول حاسم في الأوبرا الإيطالية، إذ تخلت الأوبرا الإيطالية الرومانسية بالتدريج، عن عرشها، لفن جديد جل اهتمامه رصد الواقع من دون تدخل للمشاعر والميول الشخصية لدى المؤلف الموسيقي. وأطلق علماء النظريات الموسيقية على هذه المدرسة اسم «الفيرسمو» أي الطبيعية أو الواقعية..
لأنها ناقشت الواقع الاجتماعي في أكثر جوانبه قسوة وخشونة بروح صريحة وجريئة، متأثرة بنتاجات الأدب الروائي للكتاب، أمثال الكاتب الشهير أميل زولا «التمتع بالحياة».. ولوحات مثل «لوحة الجناز» للرسام الفرنسي غوستاف كوربيه الذي شرح الواقعية بكلمات بسيطة: كيف لي أن أرسم ملاكاً وأنا لم أر واحداً في حياتي.
فارس الواقعية
وُلد روجيرو ليونكافالو الذي يعتبر أحد المؤلفين الرئيسيين للمدرسة الواقعية في الأوبرا، في نابولي عام 1857. درس في المعهد الموسيقي في سن التاسعة. وألم بعلوم التأليف الموسيقي مع لاورو روتشي. بدأ بكتابة الأوبرا في التاسعة عشرة من عمره حين كتب عمله الأول «تشاترتون» الذي يظهر فيه قوة إدراكه وثقافته العالية. إذ كان منكباً على دراسة الأدب، جامعاً بذلك بين اللغة والموسيقى.
نجاح «تشاترتون» كان بسيطاً، مما جعله يكسب رزقه من عزف البيانو في المقاهي ومن إعطاء دروس في العزف. وفي عام 1892 كتب أوبرا «المهرجون» فحققت على الفور نجاحاً كبيراً في ميلانو، وانتشرت بسرعة كبيرة، وخلال عام واحد، في أنحاء العالم. وأصبحت من أشهر الأعمال الأوبرالية وانتشرت معها شهرة مؤلفها.
«زازا»
في عام 1900 قدمت أوبرا زازا، التي حققت نجاحاً كبيراً، حيث أدى إنريكو كاروزو، مغني التينور الأسطوري، العديد من الأريات في هذه الأوبرا بنجاح كبير. وقام ليونكافالو بجولة ناجحة في الولايات المتحدة قدم فيها العديد من أعماله الأوبرالية. له عملان بارزان، هما: شباب فيغارو ومالبروك. وتوفي في إيطاليا عام 1919.
حكاية رواها الأب
في عام 1890، قدم المؤلف الموسيقي الإيطالي بيترو ماسكاني، بنجاح كبير، عمله الأوبرالي «الفروسية الريفية». وكان بين الحضور مؤلف إيطالي مغمور اسمه روجيرو لينكوفالو، وجد في ملامح هذا العرض ضالته. إذ جذبته واقعية القصة والمعالجة الموسيقية التي استخدمها ماسكاني.
فبدأ بكتابة أوبرا «المهرجون» متأثراً بنجاح الفروسية الريفية، وبناءً على طلب ناشر أعماله، فاختار موضوعاً للعمل قصة حقيقية، كان قد رواها له والده القاضي. وتتمحور حول الحب والخيانة.. والغيرة والانتقام. أو أنه اقبس بعضاً من أحداثها من مسرحية «امرأة من تابيرن».
الأوبرا الأشهر
تدور أحداث الأوبرا في مدينة كالابريا جنوب إيطاليا في الفترة ما بين 1865 - 1870 ميلادية. وقدم العرض الأول لهذه الأوبرا المؤلفة من فصلين في مايو 1892، تحت قيادة المايسترو العبقري ارتورو توسكانيني الذي كان عاملاً مهماً في نجاح الأوبرا ذلك النجاح المدوي، حيث أصبحت بعده وحتى يومنا هذا، أحد أشهر الأوبرات حول العالم.
مأساة مهرج
تبدأ الأوركسترا العمل بحماسة كبيرة.. ثم تبدأ آلة الكونترباص بنقاشات مع الآلات الأخرى، كأن المؤلف يريد أن يشرح لنا بالموسيقى عن الجدلية التي يريد طرحها في الأوبرا التي تقدم أحداثاً ربما تحدث كل يوم في الحياة اليومية.
ويخرج من وراء الستارة أحد أفراد الفرقة المسرحية الجوالة: تونيو الذي يلبس ألبسة المهرجين حسب شخصيته التي يلعبها في المسرحية واسمه تاديو ويتوجه إلى الجمهور، شارحاً من خلال أغنية معبرة أن الممثلين والمهرجين أصحاب أحاسيس وانفعالات، يشعرون بالحزن والأسى، كأي إنسان عادي.. ثم يتابع خطابه الدرامي ويخبر الجمهور أن العرض الذي سيشاهدونه هو حقيقة واقعة وليس تمثيلاً.
الفصل الأول
تدخل إلى قرية مونتالتو القريبة من مدينة كالابريا، مجموعة من ممثلي المسرح المتنقل الهزلي فيستقبلها القرويون بفرح. فيعلن مدير الفرقة كانيو أنه وأعضاء الفرقة المكونة من زوجته نيداو وصديقيه تونيو وبيبو سيقدمون في المساء مسرحية فكاهية ستدخل السرور إلى قلوبهم.
يصر القرويون على دعوة أعضاء الفرقة إلى الغداء. يفرح كانيو وبيبو للدعوة فتهم نيدا بالنزول من العربة ويهرع تونيو المتيم بها سراً إلى تقديم يده لمساعدتها ولكن زوجها الغيور كانيو يدفعه بعيداً. فتغضب نيدا من غيرة زوجها الجنونية وتعود إلى مقطورتها، فيهزأ أحد القرويين من الموقف الذي حدث.
ويقول إن تونيو يحاول سرقة نيدا من زوجها. فيضحك كانيو. ويقول عقله الداخلي إنه عندما يضحك الجمهور من تمثيله على المسرح شيء جيد. ولكن ضحكهم في الحياة على مواقفه اتجاه زوجته تثير حنقه وغيرته.
دموع المهرج الغيور
بعد ذهاب الجميع إلى المطعم يبقى تونيو ويعترف لنيدا بحبه العميق لها. ولكنها تهزأ منه فيحاول الاقتراب منها فتضربه بالسوط فيختفي غاضباً ويراقب نيدا من بعيد. بعد قليل، يظهر سيلفيو عشيق نيدا السري فتبدأ بينهما حوارية عاطفية غنائية جميلة جداً ينهيها سيلفيو بإقناع نيدا بالهرب معه ليلاً، بعد نهاية عرضها فتجيبه موافقة بقبلات حارة سعيدة (على مرأى من تونيو المختبئ).
لأنها ملت حياة الممثلين الجوالين. ولأنها لا تحب كانيو الذي حول حياتها إلى جحيم بسبب غيرته الجنونية. فيركض تونيو إلى كانيو ليخبره بما يجري. فيسرع كانيو إلى مقطورت المسرحية ليمسك الخونة بالجرم المشهود.
ولكن سيلفيو يهرب وتودعه نيدا قائلة: سأكون لك للأبد، يحاول كانيو الإمساك بعشيق زوجته. ولكنه يفشل حتى في رؤية وجهه، فيعود ويهدد نيدا بأنه سيقتلها بمديته إن لم تفصح عن هوية عشيقها، لكن بيبو ينتزع المدية من يده ويقول إنهم يجب أن يتهيؤوا لبدء المسرحية. ويؤكد له تونيو أن العشيق لا بد أن يحضر العرض وسيدله هو عليه لينتقم منه.
يخرج الجميع ويبقى كانيو وحيداً يحضر نفسه للعرض فيلبس زي شخصية المهرج. ويغنى بحرقة وأسى أكثر أغنيات الأوبرا شهرة وهي «سألبس زيي وأمثل دوري»، التي تنتهي ببكاء شديد للزوج المخدوع وتسدل الستارة.
الفصل الثاني
ترفع الستارة فنرى مسرحاً داخل المسرح. ويعرض ليونكافالو قصة في المسرحية مرآة حقيقية لقصة الأوبرا الأساسية. فتصدح آلة الترومبيت. وتجيبها الطبول كناية عن الدعوة إلى حضور العرض الذي ستقدمه الفرقة. فيتجمع القرويون أمام خشبة المسرح بفرح ويغنون ويدعون بعضهم لحضور العرض. فتنزل نيدا مرتدية زيها شخصيتها في المسرحية «كولومبينا»، لجمع النقود من الحضور. فترى سيلفيو الذي أتى ليذكرها بموعد هربهم. فتحذره من مكيدة تونيو.
مسرحية تعكس الحقيقة
يبدأ العرض فتظهر كولومبينا «نيدا» زوجة المهرج «كانيو» على خشبة مسرح القرية. وتروي أن زوجها المهرج سيعود متأخراً في الليل. وأنها شديدة اللهفة للقاء عشيقها ارليكين «بيبو»، الذي ما يلبث أن يأتي ليغني تحت نافذتها سيرينادة عاطفية «أغنية ليلية». يدخل خلال الأغنية تاديو «تونيو»، صديق زوجها المهرج. ويخبرها عن حبه الكبير لها فتهزأ منه وتطرده وتذهب لفتح النافذة ليدخل حبيبها فيطرد تاديو. ثم يعطيها دواءً منوماً لتضعه في طعام زوجها، حتى يتسنى لها الهرب.
ثم يتعاهدان على الهرب معاً. فتقول له: هذه الليلة سأكون ملكك للأبد. يعود تاديو محذراً أن الزوج عاد. يهرب أرليكين من النافذة. ومنذ تلك اللحظة، تتداخل قصة المسرحية وقصة الأوبرا أكثر وأكثر.
إذ سمع الزوج المخدوع المهرج ما قالته زوجته لعشيقها فيتذكر حقيقة ما يجري في الحياة. فتشتعل مشاعر الغضب في قلبه من جديد. ويغني بحرقة درامية عن الخيانة وحاجته الماسة للانتقام. فيطلب من زوجته الاعتراف باسم عشيقها التي أحست أنه يبتعد عن نص المسرحية، فتحاول إعادته إلى النص. فتناديه: أيها المهرج.. فيجيبها بغناء شديد الدرامية والأسى، أن اللون المرسوم على وجهه هو ليس لهزلية المسرح، بل هو لون الأسى والعار اللذين جلبتهما له.
كوميديا نهايتها الموت
يتأثر القرويون بأدائه الممتاز ومشاعره القريبة جداً من الواقع ويصفقون بإعجاب كبير. تستغل نيدا هذا الموقف لتعيد كانيو إلى نص المسرحية. فتقول له إن أرليكين زار بيتهم، وهو شاب لطيف.
لكن كانيو يرفض العودة للمسرحية. ويطالب بمعرفة اسم عشيقها مرة أخرى، فتكسر نيدا هي الأخرى النص. وتحلف أنها لن تقول اسمه أبداً فيشعر جمهور المسرحية أنهم لم يعودوا يشاهدوا عملاً مسرحياً بل حقيقة واقعية. يدفع سيلفيو القرويون ليهب لنجدة نيدا.
أما كانيو فيزداد غضبه لخيانتها ويستل سكيناً ويطعن نيدا طعنات عدة فتسقط وهي تنادي سيلفيو الذي يندفع لإنقاذها فيعاجله كانيو بطعنة مميتة تسقطه قتيلاً بجانب نيدا. يصرخ تونيو بتشفٍ ولؤم: المهزلة انتهت، وتسدل الستار لتعلن انتهاء الأوبرا.
في السينما
1994 قدم المخرج الروسي، نيكيتا ميخالكوف. أحد أهم أفلامه
«الشمس المتعبة»، الذي أحدث ضجة كبيرة في عالم السينما.
وظهرت موسيقى أوبرا «المهرجون» في مشاهد درامية عدة
ساعدت في دعم فكرة الفيلم.
1999 استخدم المخرج الأميركي، آدم إبراهام، مقاطع من الأوبرا
في فيلمه القوي «رجل القرن»، زادت من الحساسية العالية التي تميز بها الفيلم.
2006 برز استعمال رائع لموسيقى هذه الأوبرا من المخرج الأميركي
جورج ميللر، في فيلمه الكرتوني الشهير «الأقدام السعيدة». في التشكيل
1946 قدم الفنان التشكيلي الأميركي، إدريس إيكهارت، مجموعة منحوتات من وحي تأثير هذه الأوبرا، خلال معرضه في نيويورك، أهمها منحوتة تمثل المهرج المخدوع.
1960 أبدع الرسام الروسي إيفان سيفاستيانوف المشهور بعشقه للأوبرا الواقعية، وخاصة «المهرجون» في عام 1960 لوحة مأخوذة من روح الأوبرا، تعكس ألوانها فهماً خاصاً للواقعية الإيطالية.


