جدد عمل السير إدوارد إلغار الأوركسترالي «تنويعات لغزية»: (Enigma variations) ألق الموسيقى الإنجليزية التي كان قد تلاشى عصرها الذهبي مع بداية القرن الثامن عشر. إذ بقيت الجزيرة البريطانية، وبفعل تأثير انتشار الأوبرا الإيطالية، قرابة قرنين من الزمن، بمعزل عن التطورات الموسيقية. فبدت الحال وكأن الموسيقى الإنجليزية أصيبت بالعقم..
واستمر هذا الوضع حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر، حين بدأ تأثير المدرسة الألمانية بالظهور في أعمال عدد من المؤلفين الإنجليز، ومن بينهم: هوبرت بيري، وإلغار الذي تمتع بأصالة الأسلوب وحقق نجاحاً كبيراً أعاد اتجاه الأنظار نحو الموسيقى الإنجليزية.
مؤلف مبدع
ولد المؤلف الموسيقي إدوارد إلغار عام 1857 في برودهيلث: (Broadheath)، وتوفي في وورشستر: (Worcester)، عام 1934م، وكان والده عازفاً على الأرغن ومصلحاً للآلات الموسيقية. وبدأ إدوارد منذ طفولته تعلّم العزف على البيانو وعلى آلات موسيقية أخرى، وحده من دون معلم، وسرعان ما استطاع أن يكون عازفاً على الباصون: (bassoon) ضمن إحدى الفرق الموسيقية المحلية، وعازفاً على الكمان في أوركسترا الهواة.
وفي عام 1879 أصبح قائداً لفرقة آلات النفخ التابعة للكنيسة. أما اهتمامه بالتأليف الموسيقي فبرز منذ عام 1880. وكان إلغار خجولاً ومتردداً، إلا أن زواجه أكسبه الثقة بالنفس بفضل سعة إدراك زوجته أليس إلغار. ونال النجاح والشهرة العالميين عام 1899 بعد أدائه مؤلفه الشهير (تنويعات لغزية) في لندن وبرلين وأميركا. وفي السنة التالية، أتبعها بعمل (حلم غيرونسيوس): (The dream of Gerontius) الذي نال إعجاباً شديداً من النقاد والجمهور.
ثم حصل إلغار بعدها على شهادة الدكتوراه في الموسيقى من جامعة كامبردج في سنة 1900، وعمل أستاذاً للموسيقى في جامعة برمنغهام ما بين عامي 1905 و1908. وفي سنوات لاحقة، منح الدكتوراه الفخرية من جامعتي أوكسفورد وييل.
لحنية وتأثيرات
تميزت موسيقى إلغار باللحنية الجميلة مع بعض التأثيرات الفاغنرية والبرامزية، خصوصاً في (حلم غيرونسيوس) وفي (التنويعات اللغزية). وامتلك مهارة فنية فائقة في التقنية التأليفية، بجانب موهبة رفيعة في صياغة الألحان. فأنشأ بفضلهما أسلوباً خاصاً من غير الاعتماد كثيراً على الأغاني الشعبية والتراث.
حكاية البداية
في مرة، وبعد يوم طويل من العمل في التعليم، رجع إدوارد إلغار إلى بيته وجلس أمام البيانو، في محاولة لنسيان جو العمل ولإدخال البهجة إلى قلب زوجته الحبيبة أليس. فبدأ عزف لحن تحبه.. ثم شرع في صنع تنويعات على هذا اللحن. وعمد إلى تقليد أصدقاء العائلة ومعارفها، كنوع من الفكاهة والتسلية. فراقت له الفكرة وكانت بمثابة بذرة ل (تنويعات لغزية).
لحن وجداني
تعني كلمة (إنيغما): (ENIGMA) اللاتينية، اللغز أو الأحجية. واللافت أن إلغار قسم العمل إلى 14 قسماً أو لغزاً، كل منها يدل على شخصية من الأصدقاء، ووضع على المدونة الموسيقية في بداية كل قسم حروفاً باللاتينية، تدل على اسم الشخصية.
ويبدأ العمل باللحن الأساسي، وهو لحن وجداني حزين، سرعان ما يقلبه المؤلف إلى لحن مرح، ملمحاً إلى ما يريد قوله في هذه الموسيقى. ويتمثل ذلك في:
1سي آي إي: (C.A.E): وهو مختصر من اسم زوجته أليس. والتنويعة الأولى تبدأ بأربع علامات، كان يصفرها لزوجته عادة، عندما يعود إلى البيت، ثم يتابع بلحنية جميلة تصف زوجته اللطيفة الذكية بجمالية مرهفة.
2أتش دي أس بي: (H.D.S.P)، هذه الأحرف هي كناية عن اسم عازف البيانو المرح هيوي دافيد ستيوارت باول الذي كان يتميز بطريقة عزف فكاهية، صورها إلغار عن طريق الانتقالات القافزة المرحة.
3آر ب تي: (R.B.T)، وترمز الأحرف إلى ريتشارد باكستر تاونسند، الممثل الهاوي، وصديق للمؤلف، صوره إلغار كرجل مسن يحاول ممارسة تمرينات مسرحية للصوت.
4دبليو أم بي: (W.M.B)، وتشير الحروف إلى وليم ميث بيكر. وهو رجل نبيل وفاعل خير.. وصديق للمؤلف، والذي يصفه بالنشاط والحيوية والاندفاع النبيل.
5آر بي أي: (R.P.A). عازف بيانو كان يتردد على المؤلف، والذي يصفه بالرجل متقلب المزاج بين التفكير العميق والمرح المفاجئ.
6(يسوبيل): (Ysobel)، عازفة فيولا، كانت تدرس العزف عند إلغار. فأراد أن يوضح بعض التمرينات التي يقوم بها العازفون المبتدئون، لكنه يضعها في بوتقة غنائية ليصف أمانة طالبته في التمرين.
7ترويتي أرثور ترويتي غريفيث: (Troyte Arthur Troyte Griffith )، مهندس شهير وأقرب أصدقاء المؤلف.
8(دبليو أن وينفيرد نوربوري): W.N.Winifred Norbury، هي أمينة الجمعية الفيلهارمونية في ويستر.
9نيمرود أوغوتوس جي جايغر: (Nimrod: Augustus J. Jaeger)، محرر موسيقي في مطبعة لندن الموسيقية، وصديق عزيز للمؤلف. كان يشجعه بحماس على كتابة الموسيقى. وروى إلغار لأحد الأصدقاء، أن هذا المقطع ليس تصويراً لصديقه بل ذكرى عن حادثة حصلت عندما كان المؤلف يائساً وعلى وشك ترك مهنة الموسيقى، فقال له نيمرود: (بيتهوفن الذي كان يحبط كثيراً، بقي يتابع كتابة الموسيقى أكثر وأكثر، وأنت يجب أن تفعل الشيء نفسه).
وغنى له بداية الحركة الثانية من سوناتا البيانو رقم 8. واستعمل إلغار بداية هذه الحركة كتلميح للحادثة. كما أصبح هذا القسم أشهر قسم في المتنوعات واستخدم في الكثير من موسيقى الأفلام لغنائيته ونبل موسيقاه.
10دورابيلا دورا بيني: (Dorabella: Dora Penny)، صديقة قريبة للعائلة تتلعثم أثناء الكلام. وصور المؤلف بلطف، طريقتها في الكلام عبر آلات النفخ (اللعثمة) ولحن لآلة الفيولا يعبر عن لطف الصديقة.
11جورج روبرتسون سينكلير: جي آر أس: (G.R.S)، عازف أرغن مشهور وصديق للمؤلف، إلا أن الموسيقى ليست عنه، بل عن كلبه الضخم (دان) الذي سقط في النهر وأخذ يجذف بطريقة مضحكة لا تتناسب مع حجمه. فطلب هذا الصديق من المؤلف تصوير ذلك موسيقياً.
12باسيل جي أن: (B.G.N)، عازف تشيلو وصديق للمؤلف، اشتهر بشاعريته في العزف، فصور المؤلف شخصيته بلحن شاعري معبر يعزفه التشيلو.
13ليدي ماري ليغون، هذا القسم موجه إلى ذكرى الليدي ماري ليغون، وهي سيدة نبيلة تتميز بالهدوء والرقي. هاجرت إلى أستراليا. واستعار إلغار في هذا القسم لحناً شهيراً للمؤلف الشهير فيلكس مندلسون، للتعبير عن الهدوء الراقي. 14أي دي يو: (E.D.U).
في هذا القسم النهائي للمتنوعات، يظهر أي دي يو، وهو اسم التحبب الخاص بالمؤلف الذي كانت زوجته تناديه به. ونسمع هنا صداً للحنين من المتنوعة التاسعة إي نيمرود، والآخر هو اللحن الخاص بزوجته.
1992
لوحة الرسام جون بيلاني، تحمل رمزية جميلة تحكي عن المتنوعات..
1990
رائعة للرسام الكندي رويدن جوزيفسون، استخدم فيها لغة لونية مثيرة للاهتمام تشير إلى لغزية عمل إلغار..
1995
الرسامة الإنجليزية ماورين غرينوود، تصوير خاص لترجمة المتنوعات. وفيها نرى تدخلات لونية ومساحات بصرية تعبر عن فهم خاص لشخصيات المتنوعات.
1998
كانت لهذه التنويعات حظوظ كبيرة في الفن السابع. إذ لقيت إعجاباً كبيراً من قبل المخرجين وصناع الأفلام لتنوعها الكبير، وجمال ونبل ألحانها. ونسمع موسيقى هذه المتنوعات في الفيلم الشهير (إليزابيث)، من إخراج المخرج الهندي شيكار كابور.
1998
استعمل المخرج الإسباني جوسي لويس غارسي موسيقى هذه المتنوعات، بشكل مؤثر ودرامي، في فيلمه (الجد).
2008
أحدث الأفلام التي تصدح فيها هذه المتنوعات: (أستراليا). من إخراج الأميركي باز لوهرمان.


