بعد سقوط الجمهوريات العسكرية بالخريف العربي منذ ثلاث سنين، حل علينا الشتاء العربي الذي نعاني منه ونتمنى أن يزول قريباً ولا يطول.
ومنذ مقالي الذي كتبته بتاريخ 12 مارس 2011 «الشرق الأوسط ستون عاماً مضت» albayan.ae/opinions/articles/2011-03-12-1.1400661 إلى اليوم، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وخلال هذا الشتاء ثبتت صحة بعض مما ذكرت، وتغيرت مواقف بعض ممن ذكرت أو بانت حقيقتهم خلاف ما كانوا يدعون، وبانت صفات وصفقات المتأسلمين المتاجرين بشعارات التدين، فأصبحت اليوم معلومة للقاصي والداني. متابعة لما كتبت بما وجب واستحق بعين العبرة من القرن الذي مضى، ونظرة للمستقبل آملاً أن يكون مقالي هذا شمعة علها تنير قليلاً واقع شتائنا الذي نعيش، لننظر لمستقبلنا الذي نأمل، متجنبين المزالق التي وقعنا فيها، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
قرن من الزمان مضى وعالمنا العربي متعلق بالأمل والحلم بمستقبل مجتمعات متنورة واقتصاديات متطورة، منذ بداية عصر النهضة العربية الحديثة، وكان للآمال والأحلام في النصف الأول من القرن المنصرم شخصيات أحداث كبيرة، رفدت تلك الآمال والأحلام بإبداعاتها وعطائها نظرياً وعملياً على أرض الواقع، والصور الفوتوغرافية لمدن عواصم التنور العربي وللحياة فيها بالأفلام والتسجلات الغنائية والميزان التجاري حين ذاك خير دليل، وقد استمرت بقاياه إلى الستينات، وتلاشت تدريجياً نهاية السبعينات تقريباً، واليوم نحِنّ لتنوع تراث وثراء النصف الأول من القرن المنصرم، إلى انحسار آثاره غذاء لروحنا، ونشير له بالزمن الجميل!
في الثمانينات والتسعينات بدأ العرب يستفيقون على حقائق أمامهم تتوالى تباعاً، بأن كل تلك الآمال والأحلام التي عمرت نفوسهم قد تحولت تدريجياً سراباً يبعد عنهم قدر ما يسعون إليه، لعموم الفن الهابط والعمارة الهابطة في أرجاء عواصم التنور العربي، وهو حصاد ما زرع بداية منتصف القرن، فما نتج لم يهبط من السماء قضاءً وقدراً!
فما الذي قلب الآمال والأحلام لسراب وأوهام؟ سؤال مستحق الإجابة عليه بموضوعية هذه الأيام، وبإلحاح أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن هذا الشتاء مخاض ولادة لما بعد انهيارات الأنظمة السابقة، فلماذا قامت تلك الأنظمة ولماذا انهارت في توقيت واحد بعد ستين سنة تقريباً؟
بعيداً عن التلاسن والمهاترات السياسية التي لم تسمن ولم ترو ظامئاً لإجابة مقنعة للعقل العربي بين مختلف المتحازبين، فإن النظم الملكية قامت عليها الانقلابات الجمهورية بسبب الطفرة الاقتصادية والنماء الذي حققته، وتمكنت فئات قليلة من الاستفادة منها بينما الأغلبية لم يكن لها نصيب، ولم تتمكن الحكومات الملكية من علاج تلك الفوارق والمشاكل الناجمة في حينها، فكانت الانقلابات.
أما انهيار الجمهوريات فقد كان بسبب فشل قطاعات الدولة الاقتصادية العامة، التي أقيمت بمصادرة الأملاك الخاصة وتكبدها خسائر باهظة لم ينفعها تزيين ميزانياتها بأرباح لا وجود لها، فعم الفقر على الجميع إلا من رحم ربي!
خلاصة ما أنتجت تلك الجمهوريات، هي التصحر على جميع المستويات، والانكفاء في السياسة والاقتصاد والآداب والفنون، على الرغم من كل المعارك الحقيقية والمختلقة، وما أضيف لها من بهارات الدعاية والإعلام وسعة خيال الداعمين لأركان تلك الجمهوريات. ولهذا لم توجد قيادات سياسية للجماهير التي أطاحت بالجمهوريات العسكرية، ولا توجد برامج أو أطروحات سياسية اقتصادية اجتماعية مستقبلية، بديلة لما كان قائماً.
والبديل الوحيد الذي قدم بشتائنا العربي، كان برنامج نهضة الإخونج بطائر نهضتهم بجناحيه وذيله، كما قال رئيسهم مرسي العياط في مصر، والذي قيل عنه إنه خلاصة جاهزة ومعدة بعد دراسات مستفيضة لخمس وعشرين دولة نجحت خططها الاقتصادية التنموية، ثم قيل بعدم وجوده فكان أفضل برنامج تهريج وكوميديا! youtube.com/watch?v=aK5_nzCnW7I
والأسوأ أن المتأسلمين الإخونج ومن معهم، بعد أن أزاحهم الشعب من السلطة، لجؤوا للإرهاب والعنف احتجاجاً على إزاحتهم، فكان تصنيف منظماتهم ومنظمات من معهم منظمات إرهابية وحظر عملهم، لما شكلوه من أخطار على البلاد التي نشطوا فيها تخريباً مدمراً لأمن البلاد واقتصادها. وما حل بالسودان على مدى ثلاثين سنة من فتن وإفقار، وكذلك تفتيت وانقسام السلطة الفلسطينية بانفصال غزة، جزء من الدرس لا يجب نسيانه.
التحدي الذي نواجهه في شتائنا العربي ذو شقين: 1) اقتلاع الأوهام، سواء كانت قومية أم دينية، من الإعلام والنظم التعليمية والحياة السياسية، والتعاطي مع القومية والتدين بواقعية سياسية ودينية. 2) وتنزيه الدين عن الزج بمُثــُلِه وقيمه السامية العليا في السياسة، بما لها وما قد يكون عليها من شبهات دنيوية، وعدم تبرير كل أخطائنا وقصورنا بتعليقها على مشجب نظرية المؤامرة، بل بمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، وبمعالجة الفشل الاقتصادي من جذوره بعلم الاقتصاد والسياسة، أو بالسياسة والاقتصاد، وصولاً للنتيجة المرجوة، دون أي ترويج بالوعود الكاذبة والأوهام للبسطاء وللجهلة منا.
معركة البناء هذه صعبة وليست قصيرة، ولن تقل عن خمس سنوات لترسية قواعد الانطلاق لمسار التصحيح، وتحتاج تضامن وصبر الجميع للخروج من عنق زجاجة الفشل الاقتصادي أولاً، ومن ثم ما حاق بنا على باقي الصعد، للخروج من فصل هذا الشتاء القارس، لنطل بعدها إن شاء الله على الربيع وأزاهيره بدول مدنية حديثة تسع جميع مواطنيها.