بكلمات من القلب إلى القلب يبوح لنا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في الجزء الأول من كتابه الجديد «علمتني الحياة» بدروس ملهمة وقصص تفيض بالحكمة والقيم الإنسانية.
وحرص سموه في هذا الكتاب الذي يعد إضافة نوعية للمكتبة العربية، على أن ينقل تجارب مسيرته الحافلة بالإنجازات لتكون معيناً للأجيال، ومرجعاً لصناع القرار، ودليلاً للإنسان نحو طموح لا يعرف المستحيل.
ويزخر الكتاب بدروس حياتية، تعكس سيرة قائد وفارس وشاعر استثنائي خط بفكره رؤى الحكمة، وبإرادته مسارات المجد، وآمن أن النهضة تقوم على الإنسان أولاً وأخيراً.
ويستعرض الكتاب خلاصة تجربة سموه الممتدة لحوالي 60 عاماً من العطاء والوفاء، ويحفل بمعانٍ سامية ومبادئ عظيمة. وكما قال سموه عند إطلاق الكتاب: «أردت هذا الكتاب بسيطاً في كلماته.. صريحاً في عباراته.. حقيقياً في معانيه.. حتى يصل من القلب للقلب».
ويشمل الكتاب موضوعات متنوعة حول الإبداع والتسامح والولاء والحب والسعادة، إضافة إلى دروس في مواجهة التحديات، وإدارة الوقت، وغرس ثقافة الأمل والعطاء، لتشكّل بذلك مصدراً لكل من يسعى لصناعة المستقبل والمساهمة في بناء مجتمعات مزدهرة ومستدامة.
35 فصلاً يتضمنها الكتاب، تروي نتاج مدرسة فكرية وقيادية متكاملة، وتوثق محطات من مسيرة وفلسفة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم القيادية والفكرية في سياسة الناس وسياسة الحكم، وسياسة الحياة.
«البيان» تسلط الضوء على فصول الكتاب، الحافلة بدروس الحياة التي صاغها سموه بقلمه ورؤيته لتبقى نبراساً ينير دروب الأجيال في مختلف الميادين.
عندما يسألني الناس عن الإنجازات التي تحققت، أقول دائماً: إنها ليست إنجازاتي أنا وحدي، بل إنجازات فريق كامل كان ورائي.. يعمل معي ويؤمن برؤيتي ويكمل مسيرتي.
فالنجاح لا يُصنع بيد واحدة.. بل بأيدٍ كثيرة تعمل بتناغم، وبعقول وقلوب تشترك في الهدف ذاته.
علّمتني الحياة أن القيادة ليست منصباً ولا لقباً، بل مسؤولية يومية تُترجم في كيفية اختيار الفريق وتمكينه وإطلاق طاقاته.
القائد الحقيقي لا يُقاس بما أنجزه بمفرده.. بل بما أنجزه مع فريقه.
صناعة الفريق هي الاستثمار الأعظم الذي يمكن أن تقدمه لوطنك ومؤسستك، فالفريق القوي لا يحافظ على النجاح فحسب بل يخلق دورة مستمرة من النمو، ويضمن أن الرؤية لن تنتهي برحيل القائد.. بل ستكبر وتزدهر مع الأجيال التي تلبيه.
علّمتني الحياة أن السؤال اليومي الأهم للقائد ليس ما هو أفضل عمل أنجزه اليوم، بل من اختار لإنجاز العمل الأفضل.
القائد الحقيقي شغفه اليومي بناء الفريق القيادي، لأننا قبل أن نبني مؤسسات نبني أشخاصاً تقوم عليهم المؤسسات والمجتمعات والأوطان.
علّمتني الحياة عند اختياري للفريق التركيز على الأخلاقيات والمهارات معاً، والأخلاقيات هي الأهم.. لأنه لا يوجد أسوأ من الموهوب عديم الأخلاق.
وأهم من ذلك الأخلاق التي نغرسها في بيئة العمل. لأن الفريق المميز قد تجذبه في البداية المزايا الوظيفية، لكن ما يبقي جذوة نشاطه وشغفه مشتعلة هي القيم التي نرسخها في بيئة العمل.
علّمتني الحياة أن أختار فريق عملي لا لحلّ التحديات الحالية فقط، وإنما لتصميم وبناء الإنجازات المستقبلية، أحدد لهم الوجهة فقط، ويكونون من الذكاء والحنكة ليخبروني ماذا سيفعلون لكي نصل.
علمتني الحياة أن كل إنجازاتنا الحالية هي نتيجة قراراتنا السابقة الخاصة بتشكيل فرق عملنا. الخطأ في اختيار الفريق قد يكلفنا سنوات من التأخر.. والآلاف من الفرص الضائعة.
الحرية الاقتصادية
علمتني الحياة أن أفضل ما يمكن أن تفعله الحكومات لتحقيق الازدهار الاقتصادي هو أن لا تحاول أن تهيمن عليه.
الاقتصاد يقوم على حركة البشر وأفكارهم ونشاطهم واستغلال طاقتهم العظيمة الكامنة عندهم.
الحكومة تنظم هذه الحركة، ولا تكون هي الحركة.
الدول التي حاولت أن تسيطر حكوماتها على حركة الاقتصاد أثبتت فشلها.
أعلنت قبل فترة عبر وسائل الإعلام بأن الإمارات تستحوذ على 41 % من إجمالي الصادرات في المنطقة خلال العام 2024.
راسلني أحد الأصدقاء العرب متسائلاً: «بالله عليكم.. أنتم تمثلون حوالي 2 % فقط من شعوب المنطقة.. كيف تحققون كل ذلك؟».
أجبته: ليس فقط التجارة، نحن بحمد الله نستحوذ على ربع سياحة المنطقة، ولدينا أنشط سوق عقاري في الشرق الأوسط، ونجتذب حوالي 40 % من الاستثمار الأجنبي للمنطقة، ونستحوذ على ثلث حركة الطيران فيها.. وغيرها من الأرقام والتي وإن كانت تسرني، إلا أنها على المستوى الحضاري تزعجني جداً.
يعيش في منطقتنا أكثر من 500 مليون نسمة، أين إنتاجاتهم وإبداعاتهم وحركتهم؟ أين تاريخهم المليء بالإنجاز والعمل والتفوق الحضاري والريادة العالمية؟
علمتني الحياة وستة عقود من تجارب الحكم بأن البشر بطبعهم مبدعون، طموحون، خلقهم الله وغرس فيهم حب التطور والتقدم وعمارة أرضهم.
علمتني الحياة أنك إذا أردت أن تطلق قدراتهم أعطهم حريتهم..
حريتهم في العمل، حريتهم في الإبداع والابتكار، حريتهم في التنقل، حريتهم في الاستثمار.
حريتهم في التقاضي، حريتهم في تأسيس الشركات.
أعطهم حريتهم الاقتصادية
الحرية الاقتصادية هي مفتاح التطور، حرية حركة الأموال وحركة البضائع وحركة البشر.
هناك أكثر من 300 دراسة أكدت أن الحرية الاقتصادية ترتبط بزيادة الازدهار وتحسين مؤشرات الرفاه.
ورأيت ذلك واقعاً معاشاً في الميدان.
يأتي الشاب من المنطقة حولنا إلى الإمارات فيزهر ويزدهر ويؤسس الشركات وينمي الثروات، وفي بلده لا يستطيع.
عندما يكون الاقتصاد ملكاً للحكومة كيف يستطيع هذا الشاب أن ينافس؟
وعندما يكون الفساد ضارباً في جذور بلده، كيف له أن يأمن على أفكاره وطموحاته؟
وعندما تقيده حكومته بمئات الإجراءات، والبيروقراطيات العقيمة، كيف له أن يبدع؟
وعندما تقيد حركة أمواله واستثماراته وأملاكه، كيف له أن ينطلق؟
لست من دعاة الحريات التي تؤدي إلى الفوضى السياسية، وتأجيج الشعوب وخراب الدول، بل أتحدث عن الحرية الاقتصادية التي تطلق الطاقات، وتحفز على الإبداع، وتكسر القيود العقيمة أمام انطلاق الشعوب لبناء ثرواتهم وازدهارهم.
علمتني الحياة أن الحرية الاقتصادية ليست ترفاً أو امتيازاً، بل هي ضرورة لبناء المجتمعات القادرة على المنافسة، وهي أعظم من موارد الدولة الطبيعية، لأنها الوقود الحقيقي الذي يطلق طاقات البشر.
علمتني الحياة أن الأمم التي تثق في شعوبها تمنحهم حريتهم الاقتصادية، فيثقون بها ويحققون لها أعظم المعجزات.
اقتصاد قوي.. وضمير سَويْ
علّمتني الحياة أن المال والوفرة الاقتصادية وحدها لا تحقق السعادة والاستقرار في الدول والمجتمعات، بل يحققها الاقتصاد القوي والضمير السويْ معاً.
المبادئ والقيم والأخلاق ركن أساسي في تحقيق الازدهار والاستقرار.
ما الخير في مجتمع لا يراعي الضعفاء ولا يرحم المحتاجين؟
ما السعادة في مجتمع يفتقد قيم العدالة والمساواة؟
كيف يعيش الإنسان مستقراً في مجتمع لا يوفر له الكرامة لشخصيته والاحترام لإنسانيته؟
علمتني الحياة أن القائد الحقيقي لأمته ليس فقط من يوفر لها الطعام والماء والمسكن والدواء..
بل من يغرس فيها الرحمة، ويرسخ فيها العدالة، وينشر فيها روح التعاون والتسامح.
القائد الحقيقي هو الذي يطور منظومة القوانين، وفي نفس الوقت يشيّد منظومة القيم.
القائد الحقيقي هو الذي يرسخ البنية التحتية المتطورة، ومعها يرسخ بنية القيم والمبادئ والأخلاق.
يقلقني أحياناً – وخاصة في مجتمعاتنا الخليجية – الحديث الدائم عن الأرقام الاقتصادية، والإنجازات العمرانية، والمؤشرات التنموية، وننسى الحديث عن تنمية مجتمع متراحم متعاضد، وتنمية أسر مستقرة متماسكة، وتنمية أفراد بمعايير أخلاقية وإنسانية عالية.
يقلقني أننا نركز على مؤشرات تنمية الثروة، وننسى مؤشرات تنمية القيم والأخلاق والمبادئ.
المجتمعات المستقرة المتوازنة السعيدة بحاجة للجناحين لتحلق في سماء الحضارة والرقي.
تحدثت في المبادئ الثمانية لدبي عن رؤيتي لمجتمعنا. لدينا رؤى اقتصادية وتنموية، ولكن أيضاً لدينا رؤية مجتمعية أخلاقية. تحدثت عن مجتمعنا الذي يتميز بكثرة العمل وقلة الجدل... مجتمع يتميز بالانضباط في وعوده ومواعيده وعهوده.. متواضعون عند النجاح، مثابرون عند التحديات، ناشرون للخير، منفتحون على الجميع.. مجتمع يسوده الاحترام، ويربط كافة مكوناته التسامح، ويبتعد عن العنصرية والتمييز.
نعم نحن نسعى لمجتمع يسوده الاحترام، احترام كرامة الإنسان وحقوقه وخصوصياته..
احترام الوالدين، واحترام العامل والمعلم، واحترام كافة الثقافات والجنسيات والأديان.
نسعى لمجتمع يتحمل المسؤولية، المسؤولية الاجتماعية تجاه الأسر، والمسؤولية المهنية تجاه الإنجاز وأداء العمل بإتقان، والمسؤولية الوطنية في احترام الأمن والنظام.
مجتمع مبتسم متفائل مقبل على الحياة..
مجتمع متواضع، وخاصة عند النجاح والوفرة المالية والتفوق..
مجتمع متسامح متعايش، لا يشعر فيه أي أحد بالغربة، بل نحن وطنه وأهله وأسرته.
مجتمع ناشر للخير باذل للمعروف، متنافس في العطاء من غير منّة أو تفضّل، الغني يعطي الفقير والقادر يسند الضعيف..
مجتمع محب للوطن، حريص على أمنه وأمانه واستقراره وسمعته.
هذه بعض القيم التي نسعى بها، ونسعى لها، ونسأل الله أن يوفقنا في غرسها وترسيخها..
لأن الأخلاق والقيم هي القوة الحقيقية التي تحافظ على المجتمعات من التراجع والانهيار..
الأخلاق والقيم هي التي تصنع الحضارة.. بل هي الحضارة.
حاولت التركيز في هذا الكتاب على التجربة الإنسانية، على فهم نفسي، وفهم البشر من حولي.. وفهم الحياة التي حددت مسيرتي. حاولت التركيز على الأفكار، والمفاهيم والمبادئ، وليس على المشروعات والمنجزات، لأن الأفكار أدوم.. والمفاهيم أشمل..
والمبادئ أعظم.
الوقوف على رصيف الحياة لا يصنع حياة.. الخوف من الخطأ وانتظار الظروف المثالية يشل الحركة، ويزيد التردد، ويخلق مزيداً من الغموض..
علّمتني الحياة أن أعظم خطأ
هو أن لا تتحرك.
عندما يكون الاقتصاد ملكاً للحكومة كيف يستطيع الشاب أن ينافس؟
وعندما يكون الفساد ضارباً في جذور بلده، كيف له أن يأمن على أفكاره وطموحاته؟
وعندما تقيده حكومته بمئات الإجراءات والبيروقراطيات العقيمة، كيف له أن يبدع؟
من لا يملك مشروعه.. سيكون جزءاً من مشاريع الآخرين.
ومن لا يملك حلمه.. سيكون جزءاً من أحلام الآخرين.
ومن لا يملك أجندة حضارية واضحة.. سيكون جزءاً من أجندات الآخرين.
الحاكم لا يكون تاجراً
علّمتني الحياة أن الحاكم لا يكون تاجراً.
وكما يقولون، إذا دخلت التجارة على الحكم، فسد الحكم وفسدت التجارة، ولي بيت شعر أتغنى به أحياناً:
ونحن مب تجار نبغي نستفيد
نحن أهل المجد وشموس النهار
التاجر يبني ثروة، والحاكم يبني دولة.
التاجر يرفع رصيده البنكي، والحاكم يرفع رصيده الشعبي.
التجارة تقوم على المدافعة والمنافسة، والحكم يقوم على العدل والمساواة.
قد يكون الحاكم غنياً ولديه ثروة وأملاك، وهذا أفضل، حتى لا يمدّ عينيه لمال غيره، ولا يضعف أمام إغراءات المادة فتفسد الدولة، ولكنه لا يكون تاجراً.
رأيت الكثير من تجارب الدول، ورأيت كيف انتشر الفساد وانهارت الأنظمة عندما ترك الحكام الحكم وترسيخ الدولة وبناء المؤسسات، ونزلوا لجمع الأموال ومنافسة التجار.
إذا اختلط الحكم بالتجارة فُقدت الثقة، وتآكلت العدالة، واختفت المنافسة، وانتشر الاحتكار، واتجه الاقتصاد نحو الانهيار.
لو كان الحكم يصلح مع التجارة لكان زايد وراشد من أكبر التجار، ولكنه يفسده.
الحاكم هو خليفة الله في أرضه وبين عباده...
يقوم على مراعاة مصالحهم، ورعاية ضعفائهم، وإقامة العدل بينهم، وتطوير اقتصادهم، وحماية حدودهم، وبناء مستقبل أجيالهم، وترسيخ مكانتهم واحترامهم بين شعوب الأرض.
كيف يصلح ذلك مع من همّه التجارة وشاغله الأكبر زيادة أمواله؟
الحاكم إرثه دولة مجيدة، وشعب قوي وأمة عزيزة، والتاجر إرثه المال.
والذي يريد جمع المجد من أطرافه، لا ينزل السوق لجمع الأموال من الناس.
