دبي .. الحلم الذي أدهش هيكل

ت + ت - الحجم الطبيعي

اخترق لقاء محمد بن راشد ومحمد حسنين هيكل سقف الحوارات المألوفة بين رجل دولة مميز على الصعيدين الإقليمي والدولي، وصحافي مفكر عملاق.. فالحوار الذي استغرق زهاء الساعة في الطابق الرابع والأربعين بأبراج الإمارات، جاء بمثابة عصف ذهني عميق بين قامتين سامقتين، يحفر أربعاً وأربعين طبقة تحت سطح الفكر.

اللقاء حمل في زمنه القصير الكثير من الأفكار والرؤى، والذكريات والتداعيات، والإجلال والإعجاب المتبادل، حيث عبّر الأستاذ محمد حسنين هيكل عن دهشته وإعجابه وانبهاره بتجربة دبي الحديثة، ورؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المتجسدة في الحلم الذي أصبح واقعاً معاشاً..

الرجلان لم يتقاسما فقط الاحترام والتقدير، بل تبادلا الأدوار في ثنايا الحوار؛ إذ لم يكتف رجل الدولة بالإجابات عن أسئلة الصحافي المفكر، بل باغت محمد بن راشد غير مرة محمد حسنين هيكل بعلامات استفهام مفصلية.

ومع أن أنموذج دبي الذي قال فيه هيكل: «لا أعتقد أن مدينة في العالم مرت بتجربة اقتصادية وعمرانية وثقافية مماثلة»، إلا أن محمد بن راشد تجاوز الثناء إلى فتح الحوار على الأفقين الإقليمي والدولي، مثلما استهدف منحه أبعاداً فكرية نابعة من رؤيته في الاقتصاد والقيادة والتجديد، بعيداً عن «طبول السياسة».

ولم يكتف هيكل بالتعبير عن انبهاره بدبي، بل ذهب أبعد من ذلك في صدقه عندما سأل محمد بن راشد عن «الفورمولا» التي توصل إليها سموه لبناء مدينة، لم ير مثلها في العالم من حيث منجزها الاقتصادي والعمراني والثقافي والحياتي، كما قال هيكل، وإلى حد يفوق التاريخ والجغرافيا والثقافة، على حسب تعبيره، وعلى نحو يفوق الخيال، وفق وصفه.

كان رد محمد بن راشد أكثر عمقاً من مجرد الإجابة عن أسئلة هيكل المعبرة عن الدهشة؛ إذ عمد سموه إلى تصحيح رؤى الكاتب والمفكر، عندما أوضح أن نادي دبي النفطي لا يزيد على 3%، وأن الثروة لم تجعل أهل الإمارات «يربضون في الظل»، وأن مفهوم الثروة في هذا العصر أصبح أوسع من قاعدته المتداولة في الأدبيات التقليدية.

بادر هيكل سموه بسؤال خاطف: كيف يعيش محمد بن راشد تفاصيل هذا الحلم؟

رد سموه سريعاً: أعيشه بالواقع، وما رأيته لم يكن إلا بداية لحلم طويل علينا تحقيقه، لنسعد إنسان الإمارات ومن يحيا على أرضها، أنا أقول: صحيح عملنا، ولكننا لا نزال في أول الطريق. طموحاتنا أكبر، ورؤيتنا أبعد، أما الذي يحلم، وليست عنده معرفة، فلابد أن يتعلم كيف يجد لنفسه طموحاً وهدفاً، وإذا لم توجد عنده تجارب، فلا بد أن يجرب.

محمد بن راشد بذهنه المتوقد، وحضوره المتواصل، استدعى روح المحاور، وتبادل الأدوار مع هيكل، فقال له: دعني أسألك أنا هذه المرة، وبصدق: لماذا أنت بعيد عن دبي، وكيف وجدتها؟

قال هيكل: سأجيب، لكن من دون زعل أو عتب!

بادره سموه: نحن لا نزعل من الحقيقة، حتى لو كانت مُرة.

أجاب الأستاذ بصراحته المعهودة: أحاول يا سمو الشيخ أن أبعد عن دول النفط بقدر الإمكان، فلم أزر أياً منها، وكنت قد زرت دبي في وقت مبكر من عمر الاتحاد، وكان ذلك في العام 1975، في تلك الفترة كنت أعمل في مشروع كتاب عن العالم العربي، وللأسف الشديد، لم ير مشروع الكتاب النور حتى هذه اللحظات، لأسباب كثيرة، لا مجال لذكرها، ووقتها التقيت والدكم المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، فاطلعني على مشروع ميناء جبل علي، الذي أصبح اليوم شرياناً من شرايين دبي النابضة.

عموماً، دبي التي رأيتها في تلك الفترة وسكنت ذاكرتي مدينة ساحلية هادئة، متواضعة في العمران والخدمات، وما أراه اليوم في دبي يكاد يفوق الخيال، وأعتقد ـ وأنا أسترجع بذاكرتي تلك الفترة الزمنية، وأرى بأم عيني هذا التحول المثير ـ أنه ما من مدينة في العالم مرت بتجربة اقتصادية وعمرانية وثقافية وحياتية كالتي مرت بها دبي، وما زلت أجهل يا صاحب السمو «الفورمولا» التي توصلت إليها لبناء مدينة تملك هذه المواصفات الفريدة!.

وبتواضعه المعتاد، ورؤيته الثاقبة، أكد صاحب السمو أنه لا يملك وصفة «فورمولا» جاهزة للنجاح، مشدداً كدأبه على روح الفريق، والرؤيا الواحدة، والتجديد، باعتبارها عناصر القوة التي تضخ الروح في المصادر، وقدم سموه لمحة من رؤيته في صيغة أسئلة مفتوحة على الحاضر والمستقبل، قائلاً: في أسلوبنا التنموي نسأل دائماً: كيف نعزز الاستقرار والبناء؟ ما هي الخيارات المتاحة؟ ما هي البدائل؟ كيف نتفادى السلبيات والخسائر؟ هل يتوفر فريق للتنفيذ؟ من أين نحصل على المهارات؟ ما هي مصادر التمويل؟ كيف نجذب المستثمرين؟

ثم خلص إلى القول: عندما نحصل على الإجابات، نتحرك بالسرعة المناسبة، وعندما نخطئ، نتعلم من أخطائنا.. ثم تجاوز محمد بن راشد الحدود القطرية بمحمد حسنين هيكل، حينما قال: لا يخلو بلد عربي من مصادر الثروة، لكن المهم هو حسن إدارتها.

ذلك هو السؤال القومي الملح، مثل كل الأسئلة والإجابات التي انطوى عليها اللقاء، فهي أسئلة تشغل بال كل المفكرين والمثقفين العرب، وتجسد تحديات أمام شعوب الأمة وساستها.

لقطات

أهدى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم كتابيه «رؤيتي» و«ومضات من فكر» إلى هيكل، الذي أصر على أن يقوم سموه بتوقيع كلمة إهداء، ولكن ما إن فتح الأستاذ هيكل الكتابين الأول والثاني، إلا ووجد الإهداء مكتوباً، فدهش من حضور سموه ولفتته.

قال هيكل: قبل هذا اللقاء بدقائق، كنت قلقاً، أرتب الكلمات التي سأقولها عند لقائي بسموك، لكنني وجدت شخصك مختلفاً؛ مصغياً، حاضر الذهن والبصيرة، هادئاً، ومحاوراً.

امتد اللقاء قرابة الساعة، وكان بعيداً عن الرسميات، وتحدث هيكل عن الفكر الاقتصادي الذي يحمله جوهر المدينة، فقبل لقائه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، سأل عن مكان اللقاء، وكم يبعد عن فندق أبراج الإمارات الذي حلّ فيه ضيفاً؟ وأصابته الدهشة عندما أخذه مرافقه عبر المركز التجاري للفندق متجهاً إلى برج المكاتب، حيث مكتب سموه، بعيداً عن الرسميات والدواوين، وهذا الأمر المدهش المتحرر من الرسميات، لم يره في ثقافة البلدان العربية التي زارها سابقاً.

Email