مأسسة عمل الخير

ت + ت - الحجم الطبيعي

عمل الخير في الإمارات قديم قِدمَ هذه الأرض، وهو مغروس في نفوس أبناء الإمارات المفطورين على حب الخير، والعمل على نشره، وجعله أسلوب حياة وليس فعلاً عارضاً. لذلك فحين دعا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، إلى ترسيخ ثقافة الخير في الإمارات، واعتبر ذلك مسؤولية مشتركة، فهو إنما كان ينطلق من هذا الواقع، سعياً لبناء استراتيجية طويلة الأمد لمأسسة عمل الخير.

الخيّرون في هذا الوطن كثيرون، يمتد تاريخهم إلى مئات السنين، قبل أن تعرف هذه الأرض النفط الذي يظن البعض أنه مصدر الخير الوحيد فيها؛ فقبل أكثر من مئة عام على سبيل المثال، عندما لم تكن هناك مدارس ولا تعليم نظامي، تصدى أحد أبناء هذه الأرض، هو الشيخ أحمد بن دلموك، لإنشاء أول مدرسة شبه نظامية في دبي، وكان ذلك عام 1912، لكنه توفي قبل أن يكتمل بناؤها، فتولى ابنه محمد إتمام البناء، وأطلق عليها اسم «المدرسة الأحمدية» تيمناً باسم والده، واستقطب لها خيرة العلماء والفقهاء من منطقتي الإحساء والزبير لتدريس علوم الدين واللغة العربية، لتصبح بذلك أول مدرسة أهلية شبه نظامية تُنشأ في الإمارات، فغدت مركز إشعاع حضارياً وتنويراً علمياً، تلقى تعليمه فيها جيل من الرعيل الأول، على رأسهم المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، وقد أسهم ذلك الجيل في بناء قواعد هذا الوطن، وساهم في تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان له فضل الريادة في البناء.

هذا مثال واحد من أمثلة أعمال الخير التي ساهم بها أبناء الإمارات على مدى تاريخ هذا الوطن، وهناك أمثلة كثيرة يضيق المجال عن ذكرها، وهي أعمال تدل على أن أهل هذا الوطن مجبولون على فعل الخير؛ لذلك لقيت دعوة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، لجعل عام 2017 عاماً للخير صدى كبيراً لدى الجميع، كونها عكست النهج الذي سار عليه أبناء الإمارات منذ القدم، كما عكست النهج الذي تبنته دولة الإمارات منذ تأسيسها.

وهو نهج قائم على العطاء الإنساني وتقديم الخير للجميع دون مقابل، كما قال سموه لدى الإعلان عن عام الخير الذي سيتركز العمل خلاله على ثلاثة محاور رئيسة، هي ترسيخ المسؤولية المجتمعية في مؤسسات القطاع الخاص لتؤدي دورها في خدمة الوطن والمساهمة في مسيرته التنموية، وترسيخ روح التطوع وبرامجه التخصصية في فئات المجتمع كافة، لتمكينها من تقديم خدمات حقيقية لمجتمع الإمارات، والاستفادة من كفاءاتها في المجالات كافة، وترسيخ خدمة الوطن في الأجيال الجديدة كأحد أهم سمات الشخصية الإماراتية، لتكون خدمة الوطن رديفاً دائماً لحب الوطن الذي ترسخ عبر عقود في قلوب أبناء الإمارات والمقيمين على أرضها.

هذه المحاور الثلاثة مهمة ومتأصلة لدى أبناء الإمارات والمقيمين على أرضها، وإذا كان الكثير منهم يقدمون اليوم أعمالاً خيرية في إطار جهود ومبادرات شخصية متفرقة، فإن مأسسة عمل الخير في إطار استراتيجية طويلة الأمد، كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أصبحت اليوم ضرورية وملحة، لجمع هذه الجهود والمبادرات، ووضعها في إطار مؤسسي منظم، ضمن منظومة تشريعية متكاملة للمسؤولية الاجتماعية، كي يمارس الجميع دورهم التنموي بفاعلية أكبر، وكي تكون مبادرات الخير جزءاً حيوياً من طبيعة الأداء المؤسسي، ومن السلوك الفردي والمجتمعي، كما قال سموه.

مأسسة عمل الخير مهمة، لأنها تضمن استمرارية هذا العمل حتى بعد رحيل أصحابه، فمن أبرز الذين مأسسوا عملهم الخيري رجل الأعمال الشاعر سلطان بن علي العويس، عليه رحمة الله، الذي كانت له أعمال خيرية كثيرة، لعل أشهرها «مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية» التي بدأت عام 1987 بتأسيس جائزة دائمة لتكريم الأدباء والمفكرين العرب تحمل اسمه.

وقد احتضنها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات قبل أن يتم تحويلها عام 1992 إلى مؤسسة ثقافية مستقلة، تم إشهارها بموجب مرسوم صدر عن ديوان المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، وشكل لها سلطان بن علي العويس، عليه رحمة الله، مجلس أمناء يديرها، وأوقف لها عدداً من الأسهم والسندات كي تكون مصدراً لتمويلها. وكذلك فعل رجل الأعمال عبدالله الغرير، الذي أعلن عام 2015 عن تخصيص ثلث ثروته الشخصية لإنشاء «مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم» التي تهدف لتزويد جيل الشباب في العالم العربي بالكفاءات والمهارات اللازمة، وتأهيلهم ليكونوا قادة المستقبل، وتزويدهم بالكفاءات والقدرات ليسهموا في نهضة مجتمعاتهم وبنائها، وشكل للمؤسسة مجلس أمناء لتسييرها والإشراف على أعمالها.

هذه المبادرات ليست غريبة على مجتمع الإمارات وأهلها، لكنها تبقى مبادرات فردية، لذلك كان من الضروري تفعيل المسؤولية المجتمعية للشركات وقطاع الأعمال، كي يقوم هذا القطاع بالمساهمة الفعّالة في العمل الخيري والتنمية، عبر تبني العديد من المبادرات والمشاريع التنموية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغيرها. وقد كان هذا واحداً من المسارات المهمة التي ناقشتها «خلوة الخير» الأسبوع الماضي، وخرجت منها بأفكار وبرامج نوعية، تهدف إلى وضع سياسات متكاملة لتشجيع وإلزام الشركات بتطبيق مبادئ المسؤولية المجتمعية على نحو يمكن قياسه وتقييمه، لذلك نحن متفائلون بأن «عام الخير» سيحدث نقلة نوعية في مجال العمل الخيري، ليعم الخير الجميع، ويشارك في العمل الخيري الجميع.

Email