دون مقدمات يصبح للثورة أعداء، رغم المسافة الطويلة التي تفصل الثورات عن النجاح، ينمو أعداء على جدرانها، كأنهم طحالب أو أوراق لبلاب، فيتصيدون أخطاء الثائرين وعثراتهم. ويتعاملون معها بشكل فردي يشبه عمليات الثأر والانتقام، وكأن الثورة خلاصة المعصومين عن الخطأ، أو كأن الثوار من سلالة غير البشر.

في الثورة كثير من الملح الذي لا يستسيغه محبو الأطعمة الخفيفة، حالها حال البحر: مياهه ليست عذبة لكنها تحفظ التوازن البيئي. فالثورات تحفظ توازن المجتمعات من طغيان الدكتاتوريات. وأفرز التاريخ ثورات ذهبت مثلاً في أهدافها، تلهم الشعوب كي تسير على خطاها. ثورات تعيش في وجدان البشرية حتى اليوم، كان فيها كثير من الأخطاء. ولكن في الثورة ينظر الناس إلى النصف المليء من الكأس.

تقوم الثورات أصلاً ضد الفساد، وتختار دكتاتوراً، هدفاً للانقلاب عليه. وتوضح الأدبيات السياسية أن هناك خطأ دارجاً في وصف النظام الديكتاتوري. فالديكتاتورية اصطلاح روماني قديم، يجسد نمط نظام وضعته الدولة الرومانية، معتبرة إياه جزءاً استثنائياً بسيطاً ومكملاً لنظام برلماني ديمقراطي أصيل. إذ كان يختار، عبره، مجلس النواب في روما، في أوقات الأزمات التي تهدد البلاد، شخصية يشهد لها بالقدرة والكفاءة والحزم، فيكلفها إدارة شؤون الأزمة، مع الاتفاق على تفويضه سلطات شبه مطلقة خلال وقت محدد، تكفي لدرء الخطر عن البلاد.

طبعاً.. تسقط تلك الصلاحيات بالتقادم أو بانتهاء الأزمة. ولكن ما يحدث، أن الأزمة تستمر وتستمر. بينما الفساد يزيدها بغرض أن تبقى مصالحه في الواجهة، فيتفشى السرطان، سياسياً واقتصادياً. وكثيراً ما يرتدي عباءات دينية حتى لا يخضع لأي حسابات بشرية، فيصبح الديكتاتور مطلق اليد لا يسأله أو يحاسبه أحد. وكذا لا تطاله فتوى.

هنا يأتي دور الثورة، بطيفها الملون كله، وبمحاسنها وعثراتها. لا تنتظر حكماً أخلاقياً من أحدهم. فتضع أمام أعينها، أهدافاً نبيلة.. ثورة تطلب من الذين يقفون في المنطقة رمادية، أن ينتبهوا إلى قوة التيار الذي تخلقه الثورات في بحار المجتمع. وتنذرهم بأن عليهم اختيار لونهم قبل أن تبهت التماعات الألوان، بحيث ينتصرون لقوة الشعوب عندما تريد الحياة.