اللوحة التعبيرية التي تعلو الكثير من الأبنية الحكومية، في معظم الدول الشمولية، تبدو كأنها رسمت بريشة رسام واحد، أو أنها تخرج من المدرسة ذاتها، التي تخرج رسامي القادة، وهم وسط حقل الزهور تحيطهم الفراشات والسماء الصافية والأشجار الخضراء والجبال العالية التي تكسو قممها الثلوج، وتعلو وجوههم علامات الرضا، ومن حولهم ألوان الحياة (عمال، فلاحون، نساء، طلاب، مريدون. جميعهم يحملون الأقلام والمعاول والرفوش ومفاتيح الربط ومفكات البراغي).
تلك اللوحة الوطنية العملاقة تعلو الأبنية وتغطي الطريق من المطار إلى وسط المدينة، يشاهدها ضيوف الوطن عندما كانت الزيارات تحمل لقب (التاريخية). لوحات تعود في معظمها إلى حقبة (الأرض لمن يعمل بها)، أي رغم دورة الزمن، ظلت اللوحات تحمل الفكرة نفسها، ولها المغزى عينه، فلا توجد لوحة فيها كمبيوتر أو موبايل، أو مفردة أخرى معاصرة. والآلة الوحيدة التي تهجم على حقل الزهور، هي الجرار الزراعي الذي يقوده فلاح باش الوجه، وبجانبه زوجته السعيدة بانتسابها إلى الاتحاد النسائي.
معظم تلك اللوحات ضربها الصدأ أو خلطت الأمطار حقولها بمعاولها وزهورها بمفكاتها ونساءها بجراراتها، لتصبح لوحة سوريالية يندهش سلفادور دالي لغرابتها، فقد سالت الألوان على بعضها، ولم يعد يتذكر رساموها ماذا كانت من قبل. الرسامون الذين حولتهم الأنظمة الشمولية إلى صباغين يلونون جدران المدارس بأهداف الأحزاب ويخترعون تداخلاً بين المعلم الأول والتلاميذ، عبر مشهد مستقبلي فيه المدارس والجامعات، ولا يقل مشهد الفلاحين مع الفلاح الأول عنه ألواناً وتمازجاً، حيث سنابل القمح وحقول القطن تتفجر خيراً، لأن يد القائد تلامسها.
وفي مواضع أخرى ستبدو الصورة أكثر قوة وقسوة، إذ القائد هو الجندي الأول وحوله دبابته وصواريخه ومدافعه، مع جنود مخلصين يدافعون عنه وعلى وجههم إمارات الغضب. وتبدو سواعدهم مفتولة وهم يحملون البنادق ذات الحراب، وكأنهم يتوجهون تواً إلى تحرير أرضهم المغتصبة. لوحة تتقاطع مع مفهوم الخير والشر، الوطن والعدو، لوحة ظلت لسنوات وسنوات تتصدر، كتب الصداقة العربية الكورية والصينية والسوفييتية وجميع الأنظمة التي كنا نقلدها بالزهور والمهرجانات الخطابية والكرنفالات والدعاية الإعلامية التي تحول الأوطان إلى مزارع شخصية، كل ما فيها يسبح بحمد القائد الأوحد.
ماذا تبقى من تلك اللوحات العملاقة أو من تلك الدعاية.. سقط عليها كثير من المطر، وسالت ألوانها على بعضها لسنوات طويلة، سنوات وسنوات.. مرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر.