إن الرجال الذين يصنعون تاريخاً ما، يأتون بقدر خارج عن إرادتنا في عصر يناديهم، وهؤلاء الرجال مثل النيازك، تظهر فجأة وسرعان ما تحترق بعد أن تنير السماء.. خادم سرور أحد هؤلاء الناس البسطاء، إذ قادته الظروف نحو تحديات جمة، فكان أهلاً للمسؤولية وإثبات الذات .
خادم سرور رجل عاصر وعاش التنوير القيادي في حياة المسرح والثقافة في الإمارات، ولم تكن الدروب في عصره، مفروشة بالبساط الأحمر، كما هي الآن، لمن يختار العمل الثقافي، فكان عصره مخاضاً لتحولات مقبلة، تمتلك تحدياتها وأحلامها وآمالها. خادم سرور هو بالأساس، رجل عسكري مسلكي، تربى في معسكرات الجيش، وتصلب عوده، واستقامت دروبه، ونما مع نمو المنظومة العسكرية.
ولكن كانت له أحلام أخرى، تعيش مع حياته العسكرية، فهو أولاً رجل من عامة الشعب، عاش في سكيك وحواري وفرجان دبي، فاختلطت حياته وتعمقت مسيرته، ونشأ على حب دبي والإمارات، ولأنه كان يدرك أهمية تراث وطنه، فقد رهن حياته وخصص الجزء الأكبر من وقته الإضافي، لحماية التراث الموسيقي الإيقاعي، وتنمية قواعده.
وقد وجد انه لا سبيل إلى ذلك، إلا بجمع أصدقائه ومريديه وأخوته، تحت سقف واحد، تحت تسمية ذات دلالات، ولذا سعى إلى تأسيس جمعية دبي للفنون الشعبية في قلب حي المنامة الشعبي، وذلك في بداية أعوام السبعينات من القرن الماضي، واجتمع من حوله كل محبي هذا الفن الشيق الذي يرتبط بالأرض وملوحة البحر، ويؤكد الهوية الوطنية والحس الشعبي.
شهادة
بقيت طموحات خادم سرور، كبيرة، ولا حدود لها.. إنه رجل يحلم بمستقبل آخر، وبرؤى لم يكن يفهمها من كان بجواره، مثلما تبرز الآن واضحة، بعد أن أصبحت أحلام خادم حقيقة واقعة على أرض الحياة اليومية.
في المنامة، وبعد أن نجح في أن يؤسس جمعية دبي للفنون الشعبية، تحلقت حوله مجموعة من الصبية، من الذين كانوا يعشقون المسرح على فطرتهم، واستطاعوا أن يحركوا فيه عاطفة الأب الذي استجاب لرغبات أولاده، ولروح الإنسان المتطلع إلى تحقيق ما لم يحققه غيره في تلك الفترة، ويقول عنه الفنان المخضرم سعيد عبدالعزيز:
"خادم سرور كان بمثابة الأب الروحي لنا، كان إنساناً متفهماً وطيباً جداً، وهو المؤسس الحقيقي لجمعية دبي للفنون الشعبية، وكذلك لمسرح دبي الشعبي الذي بدأ بتجميع الشباب، وكنا صبية في بداية حياتنا.. وجعل من الجمعية ملتقانا وعملنا". كانت طموحات خادم سرور، تلتقي مع أحلام الصبية الذين جاؤوا إلى جمعية الفنون الشعبية، ليصاحبوا هؤلاء الفنانين الفطريين..
أحلام صغيرة كان يحملها كل من: أحمد الأنصاري، عادل إبراهيم، عبيد علي، عبدالرحمن شفيع، خميس عيد، سميرة أحمد، مريم الكعبي، عايدة ومنى حمزة. وغيرهم ممن نعرفهم الآن على خشبة المسرح، وكان هؤلاء الصبية ينتظرون من رائدهم خادم سرور، أن يفجر فيهم المبادرة الأولى، وقد حققها بأن استجاب إلى مطالبهم، وأسس معهم مسرح جمعية دبي للفنون الشعبية. ويتذكر عادل إبراهيم تلك الفترة: "كانت كلمته مسموعة عند الشيوخ وخاصة الشيخ راشد رحمه الله".
ولذلك فقد سارع خادم لشرح أفكاره وأحلامه وطموحاته إلى الراحل الكبير المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي تفهم وجهات نظره وبارك مسعاه وساعده، بكل ما يمكن أن يقدم له العون المادي والمعنوي، لذلك كان نجاح خادم سرور لا يعبر عن طموحاته وآماله فحسب، بل ولأن حاكم دبي يومها، يمتلك من بعد النظر الإستراتيجي ما سهل على خادم أن يقود هذه المجموعة من الصبية، ليؤسس معهم مسرحاً ظل قائماً ومنتجاً ومتميزاً، حتى بعد هذه العقود الطويلة من الزمن. ويقول عادل إبراهيم متمماً حديثه السابق:
"خادم سرور كان رجلاً تنويرياً ومؤسساً كبيراً، كان يعاملنا كأب وكأخ وصديق، ويوفر لنا ما نريد، وينصحنا بعمل بروفات أكثر لتكون أجمل، كان إنساناً فريداً جداً وكنا نقدره ونحترمه".تؤكد الفنانة الرائدة سميرة أحمد، والتي كانت من أوائل المنضوين تحت سقف جمعية دبي للفنون الشعبية، بينما كانت فتاة صغيرة تعشق الفنون والمسرح.
وتحاول أن تخطوا خطواتها الأولى في هذا الحقل الابداعي. وهكذا فإنها تقول في شأن ما ذهب إليه الكثير من الزملاء، في الحديث عن خادم سرور ودوره الريادي ومبادراته، وأبوته للشباب الذين كانوا ينتظرون منه الدعم والمشورة: "هو الأب الروحي لفناني مسرح دبي الشعبي، كان مهتماً بالشباب، يتابعهم، ويجمعهم.
ويقضي جل وقته معهم في مبنى الجمعية في المنامة، وكان موقعها في نفس (فريجنا) أي (حينا) والمباني هذه كلها حولنا، يعني كان موقعاً استراتيجياً بالفعل، وكان رحمه الله مربياً، يرفع العصا على المتخلفين عن الحضور، لكنه كان حنوناً جداً، وصدره واسع يستوعب الكبار والصغار معاً".
صاحب أخلاقيات وقيم
وظف العسكري خادم سرور، أخلاقه العسكرية في تربية مجموعة من الشباب، ليستقيم عودهم، وليستقم المسرح معهم، لأنه يدرك أن لا مسرح إلا بالتزام أخلاقي وفني. ولم يكن ينوي أن يساهم في تقديم عرض مسرحي فحسب، بل يبني إلى جانب ذلك، قيم مسرحية.
وأخلاقيات ينبغي أن يتحلى بها الفنان المسرحي، رغم أنه لم يكن خبيراً بفنون المسرح وتقاليده وقيمه، لكنه كان فطرياً في كل تصرفاته، تقوده أخلاقه العسكرية للصرامة، لكن أبوته وإنسانيته تتحكم بعواطفه وعلاقاته البشرية. وفي هذا الخصوص، تقول سميرة أحمد، أيضاً: "..
بالرغم من عصبيته، فهو عسكري، ومواقفه صارمة، إلا أنه كان حنوناً جداً، قلبه قلب أب، يتابعنا ويراقبنا ويرشدنا باستمرار نحن البنات بالذات، كنا مجموعة كبيرة، أنا ومريم الكعبي، وعايدة حمزة، ومنى حمزة، وأخريات لا أذكر أسماءهن الآن".إن أكثر من مصدر، أكد دور خادم سرور التربوي والأخلاقي.
وإذا كانت سميرة أحمد تذكر له فضل تدخله لدى عائلتها للسماح لها بالعمل في المسرح، بعد انقطاعها، بسبب رفض أهلها، فإن حوادث أخرى تؤكد أن هذا الرجل كان يرهن حياته اليومية من أجل أهداف قد يجدها البعض مثالية، وهي بالفعل مثالية في عصره الذي كان على بوابة مخاض وانتقال كبير للحياة.
وكأنه كان يدرك هذه التحولات التي ستحدث بعد بضع سنوات، إذ اننا نتحدث عن منتصف أعوام السبعينات من القرن الماضي، وبالتحديد ما بين عامي 1975-1977، وهي أعوام تأسيس مسرح جمعية دبي للفنون الشعبية، والذي أصبح لاحقاً، مسرح دبي الشعبي. ويعود سعيد عبدالعزيز ليؤكد لنا دور خادم التربوي وأثره المباشر على حياته، عبر تجارب متعددة في تقويم حياته وعلاقاته ومتطلباته.
إلا أن الفنان محمد سعيد، وقد عاصر كل المراحل التي مر بها مسرح دبي الشعبي، يؤكد العلاقة التربوية العسكرية لخادم سرور، وعلاقته بشباب المسرح، في محاولة لترويضهم وتربيتهم. إلا أن خادم سرور، وكما يذكر سعيد عبدالعزيز بعد أن أدبه، صرف له مكافأة كانت مجزية في حينها، ما يؤكد أن خادم سرور كان يتعامل بروح الأب الذي يشعر بمسؤولياته تجاه أولاده وتربيتهم، مثلما يحاول أن يوفر لهم ما يستطيع.
وإن كانت بسيطة في يومها، وهو بمعنى آخر ليس قاسياً ولا دكتاتورياً، كما يعتقد من خلال الحديث، إنما لأنه أراد لمشروعه أن ينجح، فوظف ثقافته العسكرية لخدمة مشروعه الثقافي، وهذا ما يبرزه الكاتب المسرحي يوسف يعقوب في تحليله لشخصية خادم سرور، وقد عاش معه طيلة فترة التأسيس، إذ يقول:
"قد اختلف مع الآخرين، فخادم لم يكن دكتاتورياً والدليل على ذلك أنه جمع كل المثقفين والنخبة حوله، ولكنه رجل قوي، كان جميع من في الجمعية والمسرح يستمع له، ويحترم وجهة نظره، فكان لديه بعد نظر، ولولاه لما تشكلت الفرقة، ولا أعتقد أن لمسرح دبي الشعبي وجوداً، ولا كان هذا المبنى موجوداً ولا نادي الشباب، ولا كل من بادر به خادم سرور من إنجازات، مثل النادي العربي، واهتماماته بالفنون الشعبية والاحتفاظ بالتراث".
وفي حديث طويل للفنان عبدالله صالح، يسرد من خلاله تحليله لشخصية خادم سرور، ويؤكد بشكل إجمالي، ما ذهب إليه زملاؤه الذين عاشوا تلك الأيام، وواصلوا معه كل هذه المسيرة الطويلة، فخادم أحد أهم العناصر الأساسية التي أثرت في نفوس وأخلاق وتوجهات جيل من المسرحيين عاصره وعمل معه، فحافظ هؤلاء على ذكره ورسالته في ذاكرتهم ويومياتهم وحياتهم. ويقول عبدالله صالح: "
أبو خالد، رحمة الله عليه، نادر الوجود. ولا أعتقد أن هناك شخصاً يتمتع بمواصفاته، فجأة تشعر أنه مسؤول كبير وله مكانة معينة، في إطار المسؤوليات وأحياناً تشعر أنه طفل جميل يحب الحياة، وكوميدي من الدرجة الأولى، وكنا قريبين جداً منه، وقدمنا في عصره العديد من الأعمال المسرحية الجيدة، وهو من الذين أثروا بي شخصياً، كما أثر بالآخرين بشكل مباشر، فقد احتوانا وكان يعتمد علينا نحن الذين في المسرح، حتى في الفنون الشعبية كان يأخذ رأينا. وكنا مقربين له أكثر من الآخرين، فقد ذلل لنا الكثير من الصعاب، ويعود له الفضل في بناء مبنى المسرح الذي تشغله فرقتنا المسرحية".
دور ومكانة
وعن نفوذه ومنزلته عند المسؤولين في حكومة دبي يومها، تحدث العديد من الفنانين عنها، وكان لاهتمام ورعاية المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، لخادم ولمشاريعه، الأثر الأكبر في نجاحه وتحقيق واحد من الأحلام الأساسية، مثلما كانت لخادم علاقات جيدة مع بقية المسؤولين. وهذه العلاقات والرعاية السامية التي حصل عليها، أتاحت له الفرصة لبناء أحد أقدم المسارح في دبي، وبرعاية من المغفور له الشيخ راشدبن سعيد آل مكتوم. ويقول محمد سعيد، متذكراً هذه المرحلة:
"لولا خادم سرور، ما كان هناك مبنى لمسرح دبي الشعبي.. وكان له دور رئيسي، وكان المسرح يسمى مسرح خادم سرور. وكانت علاقته جيدة جداً بالجانب الآخر (المسؤولين).. كان عنده القدرة على أن يفتح باب أي مسؤول ويدخل، كان في الأغلب يتجنب الرسميات.
ويدخل بشكل ودي، وهو لم يطلب شيئاً لنفسه، ولكن، كان يسعى إلى مشروع وطني كبير، وكان الشيخ راشد، رحمة الله عليه، يعزه كثيراً". وبالتأكيد، لم تأت هذه الثقة وهذه المعزة من رجل حكيم وقائد كبير مثل المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، لخادم سرور، من فراغ، لولا أن خادم نفسه، كان جديراً بهذه الثقة وهذا الاعتزاز، الذي لم يكن مقصوراً على القائد الأب الشيخ راشد، إنما كان مزروعاً في أخلاق أبنائه، مثل المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، الذي كان، حينها، ولياً للعهد.
وكذلك مكانته، لدى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، أطال الله في عمره، وسمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، نائب حاكم دبي وزير المالية. وأيضاً العديد من المسؤولين الكبار الذين كانوا في مراكز السلطة يومها، وكان خادم يتعامل معهم بروح الاحترام والاعتزاز والمواطنة المتبادلة. ويقول يوسف يعقوب عن هذا الجانب: "..
والشيخ راشد كان له دور في حياة خادم سرور، لأنه ترقى كثيراً بعهده واستغل سرور قربه من الحاكم والشيوخ.
في توفير الدعم للمسرح والجمعية في تلك الأيام، وكانت له الجرأة لأن يطلب من الحاكم، بناء هذا المبنى الذي وافق عليه الشيخ راشد، وحدد مكانه بالممزر (مكانه الحالي)، والذي هو نتاج جهد خادم سرور (رحمه الله).. أيضاً خادم إنسان مثقف وقومي عربي، وهو من أوائل من أصدر أول مجلة ثقافية منوعة (فنون ثقافية). واهتم بها ووفر لها محررين وأصدرها، وظلت المجلة لفترة طويلة، وتوقفت بعد رحيله لأسباب مالية".
إنجازات
لعل من أهم ما أنجزه خادم سرور كإنجاز مادي، هو بناء مقر جمعية دبي للفنون الشعبية، وكذلك مسرح دبي الشعبي، هذا البناء الذي جاء في فترة من الزمن لم يكن يوجد فيه ضمن دبي أي مسرح أو مقر لجمعية فنون، حيث كانت الجمعية تحتل موقعها في المنامة، وهو مكان يقع بين حواري وسكيك المنامة.. إن مقتضيات الحياة الجديدة، آنذاك، جعلت المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، يوافق على مشروع بناء المسرح.
وأن يحدد مكانه في منطقة الممزر التي كانت تعتبر بعيدة عن مركز مدينة دبي حينها، إلا أن نظرة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، كانت أبعد من أن تتحدد في بقعة من الأرض، وكانت أحلامه ترسم أبعاد دبي المستقبلية، بما فيها من مكانة تجارية واقتصادية وعمرانية وحضارية، وتحققت عبر رؤى أنجاله الذين حملوا على عاتقهم رسالته ورؤاه واستراتيجيته.
وكان المرحوم خادم سرور، قد بدأ تحركاته ولقاءاته الدائمة، مع المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، بشأن بناء مسرح جديد لاستمرار هذا الفرقة. وكان له ما أراد، عندما وافق الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، على إنشاء مبنى الجمعية الجديد في الممزر، والذي افتتح عام 1983، بعرض مسرحي بعنوان "التجربة".
وهو من تأليف فؤاد عبيد ومن إخراج محسن محمد. وهذا العمل مأخوذ من مسرحية "ولد فقر طايح في نعمة"، حيث عرض المرحوم خادم سرور، على شباب الفرقة، أن يكون أول عمل كان قدم في المقر السابق، العمل نفسه الذي يقدم في هذا المبنى، بمناسبة افتتاحه.


