المنفى الشعري العراقي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمثل كتاب "المنفى الشعري العراقي .. انطولوجيا تاريخية للشعراء العراقيين في المنفى" لمؤلفه علي ناصر كنانة مقدمة لانطولوجيات أوسع يأمل أن يتصدى لها مؤلفون آخرون لتتكفل بتغطية العدد الهائل من الشعراء العراقيين المقيمين خارج بلادهم في تلك اللحظة من التاريخ .

ويدل مفهوم المنفى في الكتاب "على ارتباط الاضطرار إلى المنفى بالاضطهاد السياسي، ولتحديد المفهوم بشكل أدق يعني المنفى في هذا السياق، وفي أي سياق آخر كما أرى، الإقامة الاضطرارية في بلد آخر بسبب من القمع والملاحقة أو غياب الحريات بشكل عام أو محاولة الحفاظ على الحياة الشخصية من خطرٍ ما محدق بها ناتج عن طبيعة الأوضاع السياسية في الوطن".

ويرى المؤلف أن "أية إقامة أخرى خارج الوطن مستندة على أسباب ودواعٍ أخرى تعتبر هجرةً وأدبُها أدبَ مهجر. كما هي الحال بالنسبة لجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي وميخائيل نعيمة. والفرق بين المنفى والمهجر كالفرق بين الوجع والترف، ولكننا، في هذا الكتاب، أدرجنا المضطرّين إلى مغادرة العراق لأسباب اقتصادية خانقة، ناتجة عن وضع سياسي مضطرب، ضمن فئة المنفى لأسباب اعتبارية أو تاريخية أو منهجية" ، وقال "حيثما وُجِدَ الناس استبدَّ ببعضهم الشعور بالاغتراب في الزحام، أو حاصرتْ بعضاً آخر فكرةُ الذهاب إلى المنفى.

وفي الحالين اغتراب وفي الحالين منفى، أحدهما داخلي والآخر خارجي: تحت خيمة الوطن أو في العراء. وكلاهما وجع. ومنعاً لأي لبس في المفاهيم أجد من الضروري التأكيد على التمييز بين الاغتراب، أي الشعور بالغربة داخل الوطن، وبين المنفى وما يتبعه من شعور بالغربة خارج الوطن".

ويتضمن الكتاب جهداً تأريخياً شبه توثيقي قام به الكاتب عام 2006 بغية تحرير انطولوجيا للشعراء العراقيين في المنفى عبر رموز معروفة، "لأن النزوحين الكبيرين خلال فترة الحصار 1991-2002 وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 صعّبا من مهمة حصر جميع الأسماء" ، وأكد المؤلف في مقدمته أن "الكثير من العراقيين عانوا من وطأة الشعور بالغربة في وطنهم من جراء التهميش أو الاضطهاد أو الظلم طوال عمر الدولة العراقية الحديثة. فهناك دائماً ثمّة فئة أو فئات مهمّشة لا دورَ حقيقياً لها في صناعة قرار الحياة في الوطن أو حاضره أو مستقبله.

ودائماً هناك ثمّة صراع سياسي يقيمُ مجدَ جهةٍ سياسية على حساب قمعِ الجهة أو الجهات الأخرى. ونتجَ عن ذلك أن شعرَ الكثيرون بالغربة (أو الاغتراب) في وطنهم. ولا شكّ أن هذه الظاهرة قامت في العالم كله، في تاريخ أي بلد من البلدان في مرحلة من المراحل. والعراق ليس استثناءً في هذا السياق، ولكن الحالة فيه، كما في حالاته الأخرى، أكثر حدّة ومأساوية".

أما عن غربة المنفى العراقي فاعتبر كنانة أنها "وجعٌ شعريٌ عراقيٌ قديم منذ المتنبي حتى الآن، علماً بأن العراقيين لم يألفوا المنفى والهجرة بهذه الكثافة - في العراق الحديث - إلاّ في العقود الخمسة الأخيرة التي اُبتليَ بها بلدُهم بأنظمة حكم لا تجيد سوى القمع. وقبل ذلك كانت هناك حالات هجرة فردية ولكنها ذات أهمية قصوى في سياق الحديث عن غربة الشعراء العراقيين.

فقد هاجرَ الشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي مبكراً في القرن التاسع عشر إلى مصر، وتبعَهُ أحمد الصافي النجفي إلى إيران 1919 ثم إلى سوريا ولبنان عام 1934، ثم جاء بعد ذلك منفى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في تشيكوسلوفاكيا في مطلع الستينات ومن ثم بدر شاكر السيّاب في الكويت وسعدي يوسف في الجزائر، ومظفر النوّاب في لبنان وسوريا، لتبدأ في عقود لاحقة أكبر هجرة جماعية للشعراء العراقيين، سواء اضطرارياً أو اختيارياً، ولا فرق كبير، فالعلّة واحدة، مبكراً أو متأخراً.

وارتأينا أن يكون الاستهلال بالمتنبي الذي ولد في الكوفة ومات على مقربة من الكوت وزخرَ شعره بذكر العراق. والعراق بالنسبة لنا، غير محصور بكيان الدولة الحديثة، كما يروق للبعض القول بهذا التحديد التعسفي، وإنما هو هذه البقعة من الأرض في وادي الرافدين التي قامت فيها الحضارات الكبرى، وكانت عراقاً يفخر أبناؤه بالانتماء إليه".

ورأى المؤلف "أنّ كل مرحلة من هذه المراحل لها من حيثيات الهجرة ما تفترق به عن الأخرى، ولكن الاضطهاد السياسي وتداعيات الحروب كانا سببين أساسيين في اختيار المنفى ، وخلال المنفى الشعري العراقي حدثت تحولات وأحداث كثيرة، أبرزها ولادة تجارب شعرية جديدة ومختلفة في المنفى والامتداد الزمني للمنفى، خارج أي حساب، وإلى حدٍّ بلغَ فيه السيل الزبى في أنفس الشعراء، فمنهم مَن ماتَ كمداً.

ومنهم مَن هجرَ الشعر، وأبرزهم دُفنوا في أرضٍ لم يولدوا فيها: محمد مهدي الجواهري، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، نازك الملائكة. ومنهم مَن ينتظر. ولعلّ ما لا يحدث لأي بلد آخر أنّ غالبية (إن لم نقل كل) الشعراء العراقيين البارزين ومن مختلف الأجيال والتجارب يقيمون في تلك اللحظة السوداء من التاريخ خارج وطنهم ولأسباب مختلفة، تتلاقى جميعها حول فكرة أن هذا الوطن لا يكلُّ عن الإقامة في الجحيم".

 

 

 

الكتاب: المنفى الشعري العراقي.. أنطولوجيا تاريخية للشعراء العراقيين في المنفى

المؤلف: د. علي ناصر كنانة

دار النشر: دار الرحاب الحديثة- بيروت - 2012

الصفحات: 255 صفحة

القطع: الكبير

Email