فن "المقاومة" من فنون السرد العربي التراثي، ولعله جذر السرد الروائي الذي أسس له الغرب، وربما هو السبب في اقتحام الكاتب العربي للكتابة في "الرواية" بشكلها ومفهومها المعاصر، فور اتصال هذا الكاتب العربي أو ذاك بالثقافة الغربية منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وقد نالت "مقامات بديع الزمان الهمذاني" الشهرة والصيت الأكثر رواجاً، بين كتابات ونصوص المقامات التي شاعت منذ القرن الرابع الهجري.
تتميز المقامة بكونها شكلاً لفظياً جميل الصياغة، موسيقى الإيقاع، تتوافر فيه فنون البلاغة العربية بسلاسة. وهو ما توافر في مقامات الهمذاني، وإن تميزت أكثر ما تميزت به عن غيرها، بتلك الرؤية النقدية التي مارسها الكاتب، بروح مرحة، وحكائية مباشرة.
الكتاب يتضمن جملة ما كتبه "الهمذاني"، وقد غلبت فيه تلك المقامات التي تتناول شخصية "أبوالفتح الإسكندري"، تلك الشخصية التي التقطها الكاتب من المجتمع، وتتميز بقدرتها على التلون وإبداع الحيل ليظهر بمظهر المستحق، سعياً للوصول إلى قلوب الناس، فيستدر عطفهم، ويحصل على المال أيضاً! إلا أن هناك مقامات أخرى وتتناول موضوعات مختلفة، مثل القضاء ونقد بعض الخرافات الشائعة في المجتمع.
والمقامة في أصل اللغة هي مجلس واجتماع الناس معاً للحديث، ثم أطلق الأدباء والخطباء "المقامة" على الخطبة والعظة، وانتهت إلى توظيفها لوصف القصص التي يرويها رواة (حقيقية أو خيالية) في موضوعات مختلفة.
لكل كاتب مقامة راوياً يروي عنه، وبديع الزمان اتخذ "عيسى بن هشام" راوياً، مثلما اتخذ "الحريري" "الحرث بن همام" راوياً، وهكذا لكل كاتب الراوي الخاص باسمه.
يضم الكتاب بين دفتيه 52 مقامة، منها:
"المقامة القريضية"، "المقامة الأزادية"، "المقامة البلخية"، "المقامة السجستانية"، "المقامة الكوفية"، "المقامة الأسدية"، "المقامة الغيلانية"، "المقامة الأذربيجانية"، "المقامة الجرجانية".. وغيرها. أغلبها تنسب إلى مدينة ما أو بلد ما، وقليل أخرى تنسب إلى حالة ما أو موضوع ما، منها: "مقامة المجاعية"، "المقامة العلمية"، "المقامة الشعرية"، المقامة الخمرية"، "المقامة الوصية".. وغيرها.
تلخيص فكرة "المقامة القريضية":
يتحدث فيها "عيسى بن هشام" ويقول، إنه ما زال رهين الأسفار، حتى بلغ مدينة "جرجان" (ربما في بلاد التتار)، وهناك أصلح أرضاً وأصبح ثرياً، ولم ينس نفسه ومجالسة الرفقاء والإقامة في الحوانيت، حتى كانت مرة شاهد فيها شاباً صامتاً يتابع أحاديثه مع الرفاق. وأخيراً نطق الشاب وأخبرهم عما هو أفضل مما ذكروا من الشعراء، وأخبرهم عن الشاعر الجاهلي "ذو القروح الملك الضليل أبو الحرث حندج ابن حجر الكندي"، الذي قال ضمن ما قال:
قفانبك من ذكرى حبيب وعرفان
وربع عفت آياته من أزمان
وقوله:
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
هذا في مقابل ما قاله "عيسى" ورفاقه عن المتنبي قوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
عرض فكرة "المقامة العلمية":
يقول "عيسى بن هشام"، ابتعد عن الأهل والوطن، ورغم أنه يجيد الرماية، سليم الأعضاء، وقوي، فهذا كله لا ينفع فى تحصيل العلم. وان كانوا في الجاهلية يستخدمون قداح الميسر (تلك التي يضعون في داخلها الأمر والنهى أو افعل ولا تفعل) فإذا أراد سفراً أدخل الرجل يده، فإذا خرج منها افعل يفعل ويسافر.. وهكذا في كل شؤون حياته. أيضاً تلك المقامرة لا تصلح في تحصيل العلم.
كما أن العلم ليس خيالات وأطياف أو رؤى تمر في نومك.. لينتهي إلى حقيقة واحدة لتحصيل العلم، ألا وهي: أنه لا يجد وسيلة للحصول على العلم أفضل من المشقة والجهد الطويل، وعدم الدعة والكسل. وقد تضمنت المقامة أبياتاً من الشعر كما كل المقامات، حيث يسأل عيسى بن هشام الفتى "ابوالفتح" عن موطنه، فقال الفتى:
إسكندرية داري.. لو قر فيها قراري
لكن بالشام ليلي.. وبالعراق نهاري
السيد نجم
جهد
ما كان لمقامات بديع الهمذاني تنشر وتروج بين العامة والخاصة خلال العصر الحديث لولا جهد محمد محيي الدين عبدالحميد، وهو من قام بجمعها وشرحها وطباعتها في أوائل القرن العشرين الميلادي. واتبع عبدالحميد منهجه المبسط في هذا الكتاب على الآتي: سرد المقامة بكاملها، ثم الوقوف من كل كلمة غير شائعة وقد تبدو غامضة على قارئ اليوم، وأوضح تفسيراً لها، ثم سرد سريع لرؤيته في المقامة ولماذا هي أعجبته وما فيها من معان وعظات.
وقد تمت طباعة الكتاب عشرات المرات طوال تلك الفترة الزمانية التي تقدر بحوالي تسعين سنة، منذ أن نشرت مقامات الهمذاني لأول مرة، ملحقة بشروح محمد محيي الدين عبدالحميد.
الكتاب: مقامات أبي
الفضل بديع
الزمان الهمذاني
تأليف: أبوالفضل بديع
الزمان الهمذاني
تحقيق : محمد محيي الدين
عبدالحميد
الناشر: هيئة الكتاب
المصرية 2012
الصفحات: 335 صفحة
القطع: الكبير
