البشر محكومون بالتعاون فيما بينهم، وهذا التعاون بين البشر هو الموضوع الأساسي لكتاب الباحث والأستاذ الجامعي ريشار سينيت الذي يحمل عنوان "معا". وهو يرى أن العيش مع بشر يختلفون عنّا، عرقيا أو اثنيا أو عقائديا أو اقتصاديا، أو على مستويات أخرى، يشكل التحدّي الأكثر إلحاحا في مواجهة المجتمع المدني اليوم.

إن البشر محكومون بالتعاون رغم الميول الموجودة في الطبيعة البشرية، وقبلها في العديد من الثقافات السائدة التي تقوم على الحذر من الآخر، والداعية إلى عدم الانخراط كثيرا مع أولئك الذين يختلفون عنّا. وتصبّ في الاتجاه ذاته، السياسات المسماة بـ"الحديثة"، وفي ظل العولمة، التي تشجع سياسة القبيلة، وليس سياسة المدينة، كونها تتطلّب بالضرورة، التعامل مع الآخرين، المختلفين، بفعل تعدد مشاربهم وأصولهم. إن مؤلف الكتاب، ريشار سينيت، يحاول تحليل مثل هذه الظواهر السائدة في عالم اليوم.

يرى المؤلف في التعاون بين البشر، مهنة متكاملة، ويجدها، مثل أية مهنة، لا بد فيها من التسلح بالتعلم. وهذا التعلّم يشكل برأيه، أساس سلوك البشر عامة. وأول شيء ينبغي تعلّمه هو الإصغاء الجيد، والدخول في أحاديث عادية، بعيدا عن خوض النقاشات المعمّقة والمثيرة للخلافات.

 وفي هذا السياق بالتحديد، يقوم بسبر الكيفية التي يتعاون فيها البشر على زاوية الشارع وفي المدارس والعمل. وكذلك في إطار السياسة المحلية. ويركز المؤلف بالتوازي مع ذلك، على رسم نوع من الخط البياني لتطور طقوس التعاون، منذ حقبة العصور الوسطى، وحتى اليوم. وهو يبحث ذلك في أطر وأوضاع مختلفة، مثل: مجموعات العبيد (سابقا)، العاملين في وول ستريت (حاليا).

تتوزع مواد هذا الكتاب، بين ثلاثة أقسام رئيسية، إذ تعالج بالتتالي: طبيعة التعاون بين البشر، الأسباب التي جعلت هذا التعاون "ضعيفا" في المرحلة الراهنة، كيفية القدرة على تدعيم مثل هذا التعاون؟

وفي جميع الحالات يتم التأكيد على ضرورة "تعلّم مهنة التعاون"، إذا كانت هناك إرادة حقيقية لجعل مجتمعات اليوم المعقّدة مزدهرة. وما يتم تأكيده أيضا، هو أنه على الجميع استئناف الروابط مع الأصدقاء والعائلة وزملاء العمل ومواطنيهم تماما، مثلما يعمل صانعو الأدوات الموسيقية في لندن.

والملفت للانتباه، هو أن ريشار سينيت يقدّم تاريخ التعاون، عبر أحداث صغيرة، وربما أنه عاش بعضها، وليس فقط عبر مجموعة من الأفكار المجرّدة. وهكذا مثلا، يدعو القارئ إلى زيارة ورشة صناعة وتصليح الأدوات الموسيقية في لندن، حيث ذهب لترميم قيثارته. ومن هناك خرج بالفكرة السابقة التي جعلت من طريقة شغل العاملين في تلك الورشة، نموذجا للتعاون المثمر.

وفي معرض الحديث عن الرأسمالية الصناعية، التي يؤكد على أنها جذبت إليها الأنظار بما حققته من إنجازات لا تخفى على أحد، يشدد المؤلف على أنها بالمقابل، زادت من العزلة، ومن حالة الاغتراب التي يعيشها العاملون في مصانعها، إذ تتضاءل العلاقات الإنسانية ليغدو البشر مجرد آلات منتجة.

ذلك من خلال تضاؤل التعاون والجهد المشترك في إطار: الرقابة ـ الروتين ــ العمل الميكانيكي. ثم بالتوازي مع ذلك، تضاءل التسامح في أجواء العيش ضمن المدن بنوع من تنامي النزعة الدفاعية. وفي محصلة ذلك كله، تراجع قبول مفهوم التعدد والعمل المشترك. ويشرح المؤلف أن مفاهيم ورؤى التعاون بين البشر، ترسّخت وازدهرت في المجتمعات الأوروبية، بعد الفترة المعروفة بحقبة الإصلاح..

حيث أصبح حس التعايش مع الآخرين، بمثابة المرجعية في التعامل الاجتماعي، مع الابتعاد عن قيم الفروسية السابقة. ولكن تبدلا كبيرا جرى في الحقبة المعاصرة، كما يرى ريشار سينيت، وذلك كنتيجة لنمط الحياة في المكتب والشارع. وهذا النمط هو المسؤول، برأيه، عن انكماش حس التعايش الذي يشكل أداة جوهرية في الوصول إلى درجة متقدمة من التناسق والانسجام في الحياة والعمل مع الآخرين، وحتى مع أولئك الذين لا يماثلوننا، أو ربما الذين نخشاهم أو ربما لا نحبّهم، أو بكل بساطة، لا نفهمهم.

وبلفت المؤلف إلى أن علاقات العمل القائمة اليوم، والمبادئ الاقتصادية السائدة عامة، غدت تؤدي إلى تآكل التوازن في العمل. والأخلاقيات الرأسمالية، بنسختها الشائعة اليوم، يتم فهمها على أنها تسمح بالحصول على كل شيء، وحرمان الآخرين من كل شيء. ومثل هذا النمط في التفكير، يؤدّي بالضرورة، إلى تراجع السلطة على الآخرين، والثقة بهم والتعاون معهم.

ويشرح المؤلف، أن النزعة الفردية تعاظمت، إلى درجة أن الحس بالمصير العام، تضاءل هو الآخر. ويرى أن العاملين في "وول ستريت"، أحد أكبر مراكز المال والبورصة في العالم، ربما كانوا قد رصدوا الكارثة المالية القادمة التي انفجرت في خريف عام 2008، ولا يزال العام يعاني من آثارها حتى اليوم. ولكن لم تكن لديهم الدوافع للتحذير منها، هذا إذا لم يكونوا قد دفعوا أرباب المال الأنانيين إلى الهاوية.

وبعد تحديد أعراض المرض، يرى المؤلف أن الخطوة الأولى المطلوبة، هي الحديث عنه. وهذا ما فعله في كتابه، مشيرا في النهاية، إلى جملة قالها روشفوكو في القرن السابع عشر، مفادها: "نحن مختلفون بعضنا عن بعض، ومنقسمون في داخلنا. فلنتحدث عن ذلك".

 

 

 

 

 

 

الكتاب: معا، طقوس التعاون وسياسته

تأليف: ريشار سينيت

الناشر: آلن لين لندن 2011

الصفحات: 336 صفحة

القطع: المتوسط

 

 

 

Together

Richard Sennet

Allen Lane - London- 2011

336.P