لا تغيب عن محاور الاستهلال في كتاب" العصر الفضي في الشعر الروسي"، لمؤلفته الدكتوره زينات بيطار، تأكيد حقيقة وأحكام جوهرية تستند الى وقائع تحليل علمي منهجي، مفادها أن الشعراء الروس في المرحلة الإنتقالية الخاصة بالتحول من الكلاسيكية الى الحداثة.
والتي عرفت "بالعصر الفضي الروسي"، لم يقفوا على الحياد من التحولات الفكرية والتراجيدية الكبرى التي عرفها المجتمع الروسي والأوروبي، في نهاية القرن التاسع عشر، بل ساهموا بشكل نوعي في خلق سياقات مناخ ثقافي جديد، وقيم فكرية وسياسية واقتصادية منسجمة مع روح العصر، ومتناغمة مع ما شهدته الثقافة الأوروبية من تحولات فنية، فكرية حداثية. وتميل المؤلفة الى اعتبار حقبة العصر الفضي للشعر الروسي، مرحلة النهضة اليافعة للثقافة الروسية، إن على صعيد الادب، أو الفن التشكيلي والمسرح والموسيقى والرقص. وهنا أسهمت الترجمات في الانفتاح على الثقافة الاوروبية في القرن التاسع عشر، واستمالت العديد من الشعراء الشباب الذين انشغلوا في البحث عن لغة شعرية جديدة .
وتذكر زينات بيطار، على سبيل المثال، أحد أبرز منظري الرمزية الروسية: قسطنطين بالمونت (1817-1942)، الذي كان له دور طليعي على صعيد ترجمة النتاج الشعري لأهم الشعراء الرمزيين العالميين، الى اللغة الروسية، كأشعار وليم بليك (مبدع مؤسس لمنهج الرمزيين المعاصرين)، وكذا أشعار بيرسي شللي في عام 1892، وأوسكار وايلد. إضافة إلى أشعار شارل بودلير، وآرثر رامبو وإدغار آلان بو، وغيرهم من اعلام الأدب والشعر الأوروبي الأميركي والآسيوي.
وتتابع المؤلفة، رصد التحولات التي لامست الادب الروسي، وتحديدا الشعر منه، والذي برز كفن مؤثر وقادر على ابتكار لغة خاصة، تنهل من النفس الغنائي الذي طبع شعر تلك المرحلة. وتشير إلى انه من أبرز الذين شكلوا جيل الرمزيين الأول: قسطنطين بالمونت وفاليري بريوسف ف. سالاغوب.
وأما الجيل الثاني من الرمزيين الشباب الذين برزوا في بداية عام 1900، أمثال أندريه بيلي وسيرغي سالافيوف والكسندر بلوك وفيتشلاف إيفانوف، فهؤلاء رؤوا في الفن، إعادة تكوين للعالم بروح فلسفة فلاديمير سالافيوف. وقد أتى هؤلاء باستعمالات لغوية جديدة، وبإيقاعات لفظية مختلفة.
وترى المؤلفة في مضمون النتاج الشعري لهؤلاء، تعاليا على صخب الواقع المادي، وتجاوزا للملموس، ومن ثم قدرة على بلوغ فضاءات منفتحة على التاريخ والجغرافيا والحاضر المكتظ بمتغيرات العصر الحديث .
وحرصا منها على تقديم صورة وافية عن النهضة الشعرية، التي عرفتها روسيا في تلك الفترة، توجز زينات بيطار، في ما يشبه السيرة، مختلف المفاصل الاساسية التي أطلقت القصيدة، وأخرجتها من رتابتها، فتوردُ إنجازات الشعراء الروس التحديثية، وتذكر أهم أعلام تلك المرحلة .
وتشير في هذا السياق إلى جماعة أطلقت على نفسها اسم "المستقبليون "، إذ أعلن أفرادها تمسكهم بالمستقبل، وكان لسان حالهم التأكيد على مجاراة العصر، والتموضع في زخمه. وتشير زينات بيطار، ضمن إطار استعراضها تطور الحركة الشعرية في روسيا، في نهاية القرن التاسع عشر، الى تهاوي أحلام شعراء العصر الفضي.
واندثار آمالهم .. إلا أن هذا التراث الشعري الغني بتنويعاته، وإن طمسته أيدولوجيا الواقعية الإشتراكية بعد ثورة اوكتوبر 1917 طيلة عقود من الزمن، عاود انبعاثه في ثمانينات القرن العشرين، إبان عهد البيروسترويكا وتهاوي النظام الشيوعي الذي أحكم قبضته على البلاد والعباد.
وتحرض مؤلفة الكتاب، وإلى جانب هذه القراءة النقدية المتميزة بالاحاطة والشمول، على تزويد متنه بترجمات للعديد من شعراء روسيا الذين لمعوا في فترة نهاية القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين تقريبا.
الكتاب: العصر الفضي في الشعر الروسي
تأليف: زينات بيطار
الناشر: دار نلسن السويد لبنان 2012
الصفحات: 364 صفحة
القطع: المتوسط

