يبتعد كتاب "الثورة التونسية المجيدة..بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها"، لمؤلفه الدكتور عزمي بشارة، عن التقيد بنقاط وأسس منهجية معينة، في تشريحه وتحليله جملة معطيات ووقائع الثورة التونسية، سعياً إلى إعادة تشكيلها طبقاً لأساس يكفل القدرة على تبين عمق كنه مسارها ومخاضاتها ونتائجها، فينهل مما يتوافر له من رؤى، تقترب من التاريخ المباشر، وتفسيره في ضوء مقاربة تركز على مراجعة التاريخ اليومي، وسرد وقائع الحدث التاريخي الذي سطرته الثورة التونسية.
ويعتبر بشارة أن التجربة التونسية تقدم مثالاً مكثفاً لحالة الاستبداد السياسي، التي تعتبر من السمات العامة المشتركة بين بعض أنظمة الحكم العربية على اختلاف بنياتها وتوجهاتها ونصوصها الدستورية، حيث مورس الاستبداد في الدولة التونسية منذ الاستقلال عام 1956، مع الزعيم المؤسس، الحبيب بورقيبة، الذي جسد مركباً من الزعيم الوطني والديكتاتور الحديث.
وبعد ذلك، مع ورثته من العسكر والبيروقراطيين، إبان عهد الرئيس الهارب زين العابدين بن علي. وهكذا اتسمت الدولة منذ وقت، مبكرٍ بالمركزة الشديدة، المتجاوزة للبنى الأهلية والمحلية. إضافة إلى عملية التحديث المركزة، وارتفاع نسب التعليم وحجم التمدرس العام، والتجانس الشعبي على مستوى الهوية. كما تضافرت جملة هذه العوامل فيما بينها، لتسهم في التمهيد لانتشار ثورة اندلعت من الأطراف المهمشة، لتشمل مناطق البلاد كافة بسرعة نسبية، بمطالب مركزة وموجهة نحو الدولة.
ويرى المؤلف أنه تفاعل مع الانتفاضة، التي بدأت في سيدي بوزيد، الوضع الاقتصادي والاجتماعي مع الوعي السياسي، واحتدم الشعور بالظلم، وانعدام الحرية السياسية عند فئات واسعة، والمعبر عنه في انتفاضات متتالية، حيث وقعت الانتفاضة على نظام سياسي اجتماعي لم يعد قادراً على الحكم بنفس الوسائل، كما لم يعد التونسيون يرضون أن يُحكموا تحت ظل الاستبداد.
وتقود المراجعة التي يجريها بشارة ليوميات الثورة التونسية، إلى تلمّس بدايات الثورة، التي كانت انتفاضة احتجاجية طالبت بالخبز والكرامة، وإلى تأكيد مقولة أنها كانت ثورة "أطراف مهمشة"، إذ نجحت في المناطق التي انضمت فيها مراكز الأطراف إلى الثورة، وجرّت معها ولاياتها. ولم تنتشر في المناطق الأكثر تطوراً من الناحية الاقتصادية، إلا في الأيام الأخيرة للثورة. ولكن هذه المراجعة تتطاول إلى الثورة السورية، لتسمها بسمة الثورة الطرفية، ومقايسة زيد بوزيد التونسية بدرعا السورية.
ويجترح بشارة مقولة "القابلية للثورة"، كي يؤكد أن انتفاضة سيدي بوزيد، وقعت على حالة ثورية في تونس، أو ما يمكن تسميته بـ "قابلية للثورة"، تتلخص بجاهزيةٍ نضالية عالية، تعبّر عن عدم قبول الناس الاستمرار في العيش في ظل الظروف القائمة، واستعدادهم لفعل شيء ضدها، بما في ذلك الوصول إلى درجة التصادم مع سياسات النظام، ولكن الحالة الثورية توافرت في غالبية أرجاء تونس. ولم تكن الثورة التونسية مخططاً لها كثورة، إنما تطورت إلى ثورة بدأت شرارتها حين أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه.
وهو فعل كان رده منظماً من قبل ناشطين سياسيين، حيث تحول الرد إلى انتفاضةٍ عارمةٍ، عندما انضم الجمهور بالتدريج إليها، ثم انضم النقابات والمنظمات الحقوقية وناشطو قوى سياسية ومدنية متعددةٍ، واتحادات الطلاب والاتحاد العام للشغل وغيره. وعليه، يرجع بشارة الفضل في الثورة التونسية إلى تضحيات وعناد وبسالة أهالي ولاية سيدي بوزيد والولايات الطرفية الأخرى التي انضمت إليها، وإلى ناشطيها السياسيين، الذين اختلط لديهم المطلب الاجتماعي بالغضب وبالدفاع عن الكرامة، التي جسّدها حرق شابّ لنفسه، تعبيراً عن رفضه تقبّل العجز في مواجهة الإذلال.
ويعتبر المؤلف أن حرق الذات هو صرخة قصوى، ذهب فيها فرد، يشعر بالظلم والعجز أمام الانسداد، إلى أقصى ما يمكنه الصّراخ. ثم مع انتصار الثورة شكّل هروب زين العابدين بن علي نوعاً من عزلة الزعيم الفردية في النهاية، أمام المجتمع حين تتراص قواه. واستبدلت لحظة هروبه يأس الفرد العاجز، "اللا- مواطن"، محمد البوعزيزي، بعجز الزعيم الفرد زين العابدين بن علي، الذي كان، مثل كلّ زعيم سلطوي حيّ ما قبل شهر من هروبه، "المواطن الوحيد" في الدولة، أي جرى استبدال عجز البوعزيزي بهرب الزعيم "كلّي القدرة" من مصيره المحتوم، حتى تحوّل الهرب ذاته إلى مصيره المأساوي في نهاية الملحمة الثورية التونسية المجيدة.
الكتاب: الثورة التونسية المجيدة..بنية
ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها
تأليف: عزمي بشارة
الناشر: المركز العربي
للأبحاث ودراسة السياسات الدوحة 2012
الصفحات: 496 صفحة
القطع: الكبير

