كانت باريس، العاصمة الفرنسية، هي أكبر المدن الأوروبية خلال العصور الوسطى، وتحديدا في الفترة الواقعة بين القرن الثالث عشر والقرن الخامس عشر. ولم تكن مجرّد تجمع سكاني كبير، إنما كانت أيضا مركزا للإشعاع الفكري.

يعيد الكاتب الفرنسي، جان فافييه، المتخصص بالعصور الوسطى، ماهية ذلك التفتح والازدهار، في كتابه الذي يحمل عنوان "برجوازيو باريس في العصور الوسطى"، إلى نقطة بروز طبقة جديدة، وهي البرجوازية، إذ كان لها دور تاريخي في إحداث تحوّل اجتماعي كبير.

ويشرح المؤلف بداية، آليات ظهور الطبقة البورجوازية الباريسية، واستخدام تعبير برجوازي، ليؤكد أن شجرة نسب العائلات البرجوازية الفرنسية، ليست معروفة بشكل جيد. ولكن هذه الصفة أصبح لا بد منها، منذ العصر الوسيط، وحتى الثورة الفرنسية الكبرى، كي يمارس المواطنون المعنيون، الوظائف العامة ذات العلاقة مع المدينة، وفي القطاعات ذات العلاقة بالتجارة والحرف. وكذلك من أجل تشكيل بعض المنظمات المهنية.

ويلفت المؤلف الى انه، ومنذ بداية ظهور الطبقة البرجوازية الجديدة في باريس، مارس المنضوون في إطارها، نشاطات مالية، وذلك بالعلاقة مع الصعود القوي للنظام الملكي، أو نشاطات سياسية، وهذا من خلال مجموعات شكلتها في منظور التأثير على سن تشريعات جديدة. وفي كل الحالات، يؤكد المؤلف أن الثروة التي ملكتها الطبقة البورجوازية وطريقة عيشها، قضايا

منحتها امتيازات كثيرة على صعيدين أساسيين: القوة والمكانة الاجتماعية العالية.

وكان الانضمام إلى الفئة البرجوازية الباريسية، يتطلب استيفاء بعض الشروط، "طبقا" للبند 173، في القانون النافذ آنذاك، والذي كان يقتضي الإقامة المستمرة في باريس لمدة عام ويوم، وأن يكون المعني قد دفع الضرائب للمدينة (للبلدية)، وأسهم في الأعمال الخيرية العامة، ودفع النفقات المطلوبة لحصوله على السيف، مما يتيح له المساهمة في نشاطات الميليشيات البلدية، وبالطبع أن يقدّم طلبا لنيل لقب برجوازي لدى الأجهزة القضائية المتخصصة في المدينة. وكانت تُطلق على "برجوازيي باريس"، تسمية "برجوازيي الملك".

ومما يذكره المؤلف، اعتمادا على ما كان قد كتبه المفكر الفرنسي شاتوبريان. وغيره، أن الملك شارل الخامس، منح جميع برجوازيي باريس، لقب النبلاء، وهذا ما ثبّته بعد ذلك الملوك: شارل السادس ولويس الحادي عشر وفرانسوا الأول وهنري الثاني. وتجري الإشارة الى أن مثل ذلك الحق لم يأخذ صفة القبول النهائي فيه، إلا في القرن الثامن عشر.

وإذا كان برجوازيو باريس قد نالوا الكثير من الحقوق التي كانت تتمتع بها طبقة النبلاء ومن امتيازاتها، فإن المؤلف يؤكد على أن المكانة الاجتماعية لهؤلاء "الصاعدين" في مجتمعهم لم تكن محددة بشكل قاطع وحاسم. ذلك أن البرجوازي لم يكن فلاحا ولا قاضيا بالتعريف.

ولكنه كان بالأحرى، حرفيا أو تاجرا. وفي كل الحالات كان ينتمي إلى مرتبة في المجتمع، وليس إلى مكانة اجتماعية محددة بدقة، مثل النبلاء. ولكنه حقق نجاحا ملحوظا في النشاط الذي يمارسه داخل مدينة باريس، أكثر مدن أوروبا سكانا آنذاك، إذ زاد عدد قاطنيها على 200 ألف نسمة.

وأحد المضامين الأساسية التي يؤكد عليها المؤلف، حول صعود البرجوازية الباريسية خلال العصر الوسيط، يتمثل في قوله ان تلك الطبقة الجديدة، ارتبطت عضويا بتطور المدن، وحيث توازى ذلك مع تضاؤل دور الطبقة الإقطاعية السائدة في الفترة السابقة. وحرص البرجوازيين منذ البداية، على تعليم أبنائهم، ليصبحوا في مجتمع عصر الوسيط، محامين أو قضاة.

ويرى جان فافييه أن صعود الطبقة البرجوازية وهبوط الطبقة الإقطاعية، كان بمثابة البذور الأولى التي حضّرت لقيام الثورة الفرنسية الكبرى لاحقا، عام 1789. وهذا ما يشرحه في فصل يكرّسه لاتيين مارسيل، ذلك البورجوازي المغامر الذي صعد نجمه بين البورجوازيين الباريسيين، في القرن الرابع عشر. ووصل به الأمر إلى تحدي السلطة الملكية.

ومن ما يركز عليه المؤلف، في ما يخص دور البرجوازية آنذاك، أن السلطة الملكية وجدت نفسها بحاجة إلى تلك البرجوازية، على الصعيدين المالي والعسكري.

وفي فصل يحمل عنوان: "البرجوازي المدجج بالسلاح"، يشرح المؤلف أن ذلك البرجوازي لم يكن أبدا في موقع المثقف الذي يناقش النظريات والأفكار، ولكنه تحوّل أحيانا إلى جندي يشتري أسلحته بنفسه. وذلك في منظور المشاركة في الحروب، أو من أجل المساهمة في حماية المدينة وأمنها، وكذا المحافظة على النظام العام فيها، ضد كل من يحاول العبث فيه.

 

 

 

 

 

الكتاب: برجوازيو باريس في العصور الوسطى

تأليف: جان فافييه

الناشر: تالاندييه باريس 2012

الصفحات: 640 صفحة

القطع : المتوسط

 

 

Les bourgeois de Pari au Moyen Age

Jean Favier

Tallandier - Paris- 2012

640 .p