يشدد كتاب"جماليات الحداثة.. ادورنو ومدرسة فرانكفورت"، لمؤلفه عبد العالي معزوز، على تميز الفكر الحداثوي لدى فلاسفة ومفكري مدرسة فرانكفورت، وخاصة بشأن نقد عقل الأنوار، الذي قدم نفسه ممثلاً لسلطة العلم الطاردة للأوهام والأسطورة، وذلك على خلفية اعتبار أن العقل هو مفتاح الحقيقة.

واعتبار العلم هو قائد أسطورة التقدم المطرد، الذي لا يخطئ سبيله، الأمر الذي أفضى إلى تحول العقل إلى عقل أداتي، حين انتصرت ملكة الفهم على العقل، وتاه هذا العقل في الحساب، متخلياً عن وظيفته النقدية، وراح يتطابق مع فعاليات السلطة، عندما طغى على فعاليات الحياة وأنماطها، وأخذ شكل الآلة أو الوسيلة القادرة على إضفاء الأهمية لكل فعل، وإليه يعود تقدير أهلية وجدوى كل نشاط، وإثبات المعقول واستبعاد اللامعقول.

ويعتبر المؤلف أن الفيلسوف أدورنو ركّز على جماليات للحداثة، تتأرجح بين البعد النقدي الاجتماعي والثقافي للحضارة الحديثة، والبعد الجمالي الشكلاني، كي تنهض بنقد جذري للمجتمعات الشمولية أو التي تنحو منحى شمولياً، وبتقويض أسس الحضارة القمعية، وتفكيك علاقات الهيمنة من جهة، وتقوم في الآن نفسه، بتأسيس البعد الجمالي الشكلاني، الذي لا يعنى سوى بالتجديد في أشكال التعبير وبوسائل الإنتاج الفني، بغض النظر عن كل مضمون من جهة أخرى. مع العلم أن المضمون هو الثوري، وليس الشكل، حسب تصور أدورنو.

ويعتبر عبد العالي معزوز أنه في خضم التطور التاريخي الذي عرفته المجتمعات الغربية، تبيّن أن التحرر الإنساني المنشود لم يتحقق بالفعل في الواقع الإنساني المعاش، بل على العكس من ذلك، أصبح الإنسان يعاني ويواجه سيطرة أشد ذلك أن العقلانية الأداتية، في ظل المجتمعات الغربية، أفرزت أشكالاً وآليات جديدة للسيطرة والتحكم والضبط والمراقبة.

الأمر الذي يتطلب دراسة وتحليل العقلانية التكنولوجية، التي اتخذت شكل بناء علمي وتقني لتنظيم أمور الطبيعة، ومعرفة قوانينها بغية السيطرة عليها، والتي تمّ تسخيرها لما يخدم مصالح ومنافع الإنسان، غير أن المعرفة العلمية والتقنية، التي وُجهت للسيطرة على الطبيعة والتحكم فيها، قد جرى استخدامها أيضاً للسيطرة على الإنسان، بمعنى أنه تمّ نقل السير من مجال الطبيعة إلى المجال الإنساني.

ويحدد المؤلف المعلمين الأساسيين للمساهمة الفكرية لأدورنو في راديكالية النقد والإدانة للمجتمع الغربي الحديث، باعتباره مجتمعاً تكنولوجياً تحكمياً وقمعياً، تسوده العقلنة الأداتية الصارمة، ويعمه التشيؤ ومنطق النزعة الراديكالية التوحيدية، القائمة على المماهاة والمجانسة والهوية والتطابق.

وعليه لم يغفل عن تناول السياقات الخاصة التي دفعت قسماً من النخبة المثقفة الجرمانية، إلى ممارسة نقد حاد تجاه مفهوم الواقع الكامن وراءها. وأما الفن، فيرى عبد العالي معزوز، أن أدورنو نظر إليه بوصفه يمتلك قوة سلبية وتقويضية للحداثة الأداتية، لا تمتلكها الفلسفة، لأنها تبقى حبيسة للخطاب الاستدلالي.

ويلاحظ المؤلف أن الانعطاف نحو الفن والاستطيقا (علم الجمال)، نقطة استقطاب، وبؤرة جذب في فكر أدورنو، وحافزاً من أجل إنشاء حداثة إستطيقية تقوم على أنقاض الحداثة الأداتية، وتحول دون سقوط العقل في براثن الميثولوجيا، ودون تواطوئه مع همجية الثقافة الحديثة التي يسميها أدورنو بالهمجية المنمقة.

فلا يمثل هذا الانعطاف الإستطيقي هروباً من أزمة الحداثة، ولا يطرح حلولاً توفيقية لمفارقاتها وإحراجاتها، بقدر ما يؤججها حتى ذروتها، من أجل نزع القناع عن خداعها الجماعي وتلاعبها بالعقول. ويعتبر الفن بؤرة هذا التحول الإستطيقي، بالنظر إلى ما ينطوي عليه من قوة النقد والنفي، الموجهة إلى الحداثة التقنية في صورة المجتمع التحكمي، إذ بواسطته يمكن تنفيذ استراتيجيات الخطاب الإستطيقي، المتمثلة في المحاكاة، وفي استرجاع الطبيعة المقموعة من طرف سيرورة العقلنة.

ويبين معزوز انه يقفز سؤال الحداثة الأداتية لدى أدورنو، إلى صلب إشكاليات ومدارات الحداثة الفنية، حيث تلقى على الأخيرة مهمة تفكيك سيرورات العقلنة، التي أدت إلى انسداد أفق الحداثة التقنية، في صورها وأشكالها الاجتماعية، وخاصة تفكيك انغلاق واكتمال النسق التحكمي للمجتمع الحديث.

واكتساح التشيؤ الشامل لكل مساحات الواقع الاجتماعي والذهني، وإسدال القناع التكنولوجي على الوجه القمعي للثقافة الحديثة. لذلك، يضع أدورنو سؤال أزمة الحداثة في صلب إشكالية الحداثة الفنية، ويعيد صياغتها داخل مداراتها بكيفية لا تسمح بحل إحراجاتها، فتصبح الحداثة الفنية مسرحاً للصراع بين الأوجه المتناقضة للحداثة التقنية.

أي بين قوى التحرر وقوى القمع، وبين قوى التقدم وقوى الارتكاس، والعقل والأسطورة. وباستطاعة الفن وحده تعرية أوهام الحداثة التقنية، نظراً لقدرته على كشف تناقضاتها، بعدما أصحبت النظرية عاجزة عن وضع يدها على مواطن الداء، وفقدت قوتها النقدية، بالنظر إلى التشيؤ الشامل، الذي طال النظرية والممارسة.

 

 

 

 

 

المؤلف في سطور

 

عبد العالي معزوز، كاتب متخصص في الشؤون والمسائل الفلسفية والفكرية العامة. قدم دراسات عديدة ضمنها. ولديه، ايضا، مؤلفات كثيرة في هذه الحقول.

 

 

 

الكتاب: جماليات الحداثة ادورنو ومدرسة فرانكفورت

تأليف: عبد العالي معزوز

الناشر: منتدى المعارف بيروت 2011

الصفحات: 311 صفحة

القطع: الكبير