يستعرض كتاب " أطياف في التشكيل السوري"، لمؤلفه طاهر البني، مجموعة بانورامية شاملة بنماذجها لمختلف التجارب الابداعية الشكيلية والفنية عموما في سوريا، والمتدرجة من الواقعية إلى التجريد، مروراً بملامح الرومانسية والانطباعية والتعبيرية التي تشغل حيّزاً واسعاً لوفرة أدواتها وسعة ميادينها.
ويبين طاهر البني ان واقعية الفنان غسان صباغ في التصوير، تنبض بالحياة وبعبق الطبيعة، وتتوازى مع واقعية محمود شاهين في النحت الحريص على موضوعات قادرة على تلوين الحياة وحقنها بالأمل والمحبة والخير والجمال.
ويمكننا أن نتابع بضع موضوعات عالجها الفنان غسان صباغ في معارضه، كان أبرزها الحي الشعبي، ومشاهد الحياة الريفية والطبيعة، والكونيات الصامتة. ويلفت المؤلف الى ان المنحوتة عند شاهين لا تحتمل التفاصيل، فهي كتلة ساكنة تحكي في صمتها عن عوالم غائبة، ومن ثم كتلة متحركة تنبئ بعوالم آتية .
وتبدو واقعية محمود شاهين في شكلها، برايه، أقرب إلى واقعية الانطباعيين والتعبيريين المحدثين، دون أن تقارب التجريد . بينما تجنح الصورة لدى يوسف عقيل نحو مرافئ الرومانسية والرؤى الميتافيزيقية.
فينهل من مواردها بدأب وإصرار، ليقدم للمشاهد ما يتواءم مع ما يحبّ ويدرك، إيماناً منه بحق الإنسان في الاستمتاع بما يرضيه ويسعده في العمل الفني، مهما كانت نزعته. ويشير طاهر البني الى انه كتب عصام حمدي، عن لوحات يوسف عقيل : " البيوت قديمة وحميمية، الأشجار عارية، الحَمَامات تتوهج بالدفء والبياض، كل هذا يحمل نسغاً حياً للإنسان والتراث والأسطورة " .
وينتقل المؤلف الى الغوص في تحليل وشرح النزعة التعبيرية الواضحة في لوحات نذير إسماعيل، فالوجوه تضيء متاهات العتمة، إذ رسم نذير البيوت الطينية القديمة، من خلال خطوط عفوية بسيطة وحسّ طفولي، وتوزع المفردات البيئية في النوافذ الضيقة والأبواب الخشبية المهترئة، والشجيرات المثمرة، وصفائح الزهور والنبات، والطيور والدواجن.
ويجد البني انها لوحات لا تطمح إلى المصالحة بين النور والظلمة، ولكنها تؤكد على ضرورة توفر العدالة بين الكائنات التي تعيش فوق كوكبنا . يطعنا المؤلف على ان لوحات عبد القادر عزوز، تجعل التفاعل بين التشكيل والمدلول يتآلف بشكل جميل يبلور لوحته، ويجعل منها متعة بصرية تبقى في الذاكرة من دون أي ادعاء .
وأمّا زهير دباغ فهو يجلّلها بالمجردات اللونية، والإيحاءات المجازية، لهذا وجد نفسه مدفوعاً نحو إفراغ ما يحمله من هموم وشجون في مساحة اللوحة وغمرة الألوان، وكأن الأشكال تذوب في عالم اللون، وتتهامس مع بعضها بعلاقات وديّة دافئة من خلال تحاورات هادئة، لا تلبث أن تصدح متنافرة في بؤرة الحدث .
ويوضح المؤلف ان التعبيرية تتجلّى بقوة في محفورات علي الخالد الذي يميل إلى التكوينات الملحمية التي تمتزج فيها عناصر الأرض بالسماء، والشمس بالقمر. كما يحكي عن لوحات يعقوب إبراهيم ، ومنحوتات طلال أبو دان ومحمد بعجانو، في استظهار القيم التشكيلية والمفاهيم الجمالية الكامنة في الفنون السورية القديمة، ولا سيما تلك التي سبقت العصور الإسلامية .
ويلفت طاهر البني الى انه نجد السعي الدؤوب في تجاوز الصيغ التشخيصية المباشرة، نحو ضفاف التجريد الإيحائي في تجارب كل من : عبد الرحمن مهنا، شريف محرّم، أنور الرحبي، طاهر البني، ناصر نعسان آغا.
كما انه تنفرد تجربة أحمد برهو، في اقتحام ميدان التجريد بإصرار ووضوح، منذ معارضه الأولى، فقد عكس فيها كل همومه الحياتية والمآسي التي تستشعرها نفسه، وتجلت فلسفته في الزهد والتقشف في لوحات كبيرة، ولكنها تمور بالألوان السوداء والرمادية، وتموج في تضاعيف اللون وحركات الفرشاة العريضة..
وفي ذلك دلالة واضحة على الإمعان والتقشف والتطرف في مواجهة الزينة والتأنق، وهو نوع من التحدي الذي يصرّ الفنان على اتخاذه مستخفاً بكل القيم الجمالية التقليدية والمفاهيم المدرسية التي أتخمت بها الأعمال التصويرية السائدة . وينتقل ليبين طبيعة الابداع لدى أحمد برهو، واصفا اياه بانه . الفنان الذي اقتحم بوابات التجريد، وأشعل عتمة اللون .
الكتاب: أطياف في التشكيل السوري
تأليف: طاهر البني
الناشر: وزارة الثقافة الهيئة العامّة السورية للكتاب دمشق 2012
الصفحات: 376 صفحة
القطع: الكبير
