يقولون ان للتاريخ منطقه ومساره، ويصل البعض إلى القول ان تطوّره محكوم بعدد من القواعد. الكاتب والمؤرخ الفرنسي دومينيك فانير يؤكد بالمقابل على أهمية ما هو طارئ وغير متوقع في تغيير مسار التاريخ، بل وتحديد توجهه أحيانا. هذا ما يشرحه في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان: "الطارئ في التاريخ"، وهو يتعرّض فيه لشرح النتائج التي ترتبت على 13 عملية اغتيال كان لها دورها في رسم التاريخ الإنساني المعاصر.
ويحدد المؤلف القول ان عمليات الاغتيال السياسي، تمثل ذروة حقيقية في ما هو طارئ في التاريخ، حيث انها قد تغيّر مباشرة مجرى الأحداث. ومن بين الأكثر شهرة في عمليات الاغتيال السياسي، تلك التي تعرّض لها الرئيس الأميركي الأسبق جون كندي عام 1963، وعملية اغتيال ليون تروتسكي في المكسيك عام 1940، هذا دون نسيان اغتيال الدوق فرانسوا فيرديناند.
وريث سلالة هيسبورغ التي سادت لفترة طويلة على رأس الإمبراطورية النمساوية- الهنغارية- حدث اغتياله يوم 28 يونيو-حزيران عام 1914، لتندلع إثر ذلك الحرب العالمية الأولى، أو "الحرب الكبرى"، كما شاعت تسميتها في الغرب. وكانت تلك الحادثة، عملية الاغتيال، السبب المباشر في نهاية العالم الأوروبي القديم.
ولا يتردد المؤلف في القول ان اغتيال بيير ستوليبين، رئيس وزراء القيصر نيكولا الثاني، فتح الطريق أمام قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، ومن ما يذكره المؤلف هو أن ادولف هتلر، كان يحرص بين الفترة والأخرى، على مشاهدة الشريط المصور لعملية اغتيال ملك يوغسلافيا، الكسندر الأول، في مدينة مرسيليا الفرنسية.
حيث كان يرى فيما جرى، دليلا على نقاط الضعف الكبرى التي يعاني منها المجتمع الفرنسي. وتجري الإشارة هنا إلى أن هتلر نفسه، كاد أن يقضي في محاول الاغتيال التي دبّرها الكولونيل فون ستوفينبيرغ يوم 20 يوليو من عام 1944.
ومن السمات الأساسية الفريدة في اللجوء إلى قتل المستهدف، يحدد المؤلف إدراك من يقوم بالاغتيال بأنه يواجه هو نفسه الموت، لأنه لا يستطيع النجاح في الغالبية العظمى من الحالات بإمكانية الهرب. ويذكر المؤلف أن بيير ستوليبين، رئيس وزراء القيصر الروسي نيكولا الثاني كان يقول لأهله في كل مرة يخرج فيها من منزله:
"أريد أن يكون قبري في المكان الذي سوف أقتل فيه". وذلك ما حصل فعلا. وعندما غادر الكسندر ملك يوغسلافيا بلاده، متوجها إلى فرنسا بزيارة رسمية، قال للملكة ماري "هيّا يا عزيزتي، أليست المخاطرة بالتعرض لاحتمال الاغتيال جزء من مهنة الملك؟".
الملاحظ أن مؤلف الكتاب يركز في الفصول الثلاثة عشرة، التي يتألف منها كتابه، على حالات اغتيال سياسي عرفتها القارة الأوروبية خلال القرن العشرين. هذا مع استثناء واحد يخص عملية اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كندي.
والإشارة الى أن عمليتي اغتيال لشخصيات أوروبية جرت في الخارج، ويقصد ليون تروتسكي في المكسيك والأميرال الفرنسي فرانسوا دارلاب الذي اغتيل في الجزائر يوم 24 ديسمبر من عام 1942، أي عندما كانت الجزائر تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي. وقام بالقتل طالب شاب اسمه فرنان بونييع دو لا شابيل، إذ قبض عليه وحوكم وأعدم.
إحدى الفرضيات التي جرى تقديمها لعملية القتل تلك، والتي لا تزال تثير الكثير من الأسئلة، تقول ان الأوامر بتنفيذها صدرت من دوق باريس، الذي كان يريد احتلال مكان دارلان من أجل توحيد الجهد الحربي للسلطات في لندن والجزائر. وفرضية أخرى تقول ان القاتل كان ديغولي التوجه.
وينتمي الى أحد مجموعات المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، وبالتالي أراد التخلّص من دارلان المناهض للنهج الديغولي. ويشير المؤلف إلى أنه لا يمكن تجاهل الفرضية القائلة ان القاتل تصرّف بدافع إيديولوجي يهدف إلى التخلص من أحد المتعاونين مع الألمان. وفي كل حال، أعادت محكمة النقض الفرنسية بالجزائر عام 1945، الاعتبار للقاتل، على أساس أنه تصرّف خدمة لحرية فرنسا.
إن المؤلف يتعرّض في هذا الكتاب إلى ثلاث عمليات اغتيال كان ضحيتها روس، وهم: بيير ستوليبين وراسبوتين وتروتسكي، بالإضافة إلى اغتيال الكسندر ملك يوغسلافيا في مرسيليا عام 1934. وثلاث عمليات اغتيال لفرنسيين، هم: غاستون كالميت عام 1914، فرانسوا دارلان، فرانسوا دوغروسوفر.
ويضاف إليهم رابع هو المدعو موزير الذي نفّذ فيه الشيوعيون حكم الإعدام عام 1941، بتهمة الخيانة العظمى. وثلاث عمليات اغتيال لألمان أو ينتمون إلى العالم الجرماني، وهم: فرانسوا فريدناند، والتر راتونو، فون ستوفينبرغ الذي حاول اغتيال هتلر. وبالإضافة إلى الدو مورو رئيس وزراء إيطاليا عام 1979 يضم هذا الكتاب فصلا عن اغتيال جون كندي عام 1963.
تشكل عمليات الاغتيال السياسي التي عرفها القرن العشرون، موضوع هذا الكتاب، إذ إنها أبرزت دور ما هو طارئ في التاريخ. وغيّرت إلى هذه الدرجة أو تلك، من مساره وليس أدلّ على ذلك من أن رصاصة واحدة من مسدس، استهدفت فرانسوا فرناند في سراييفو، وكان ثمنها "9 ملايين ضحية" في حرب عالمية كبرى. وتلك الحرب كان لها أسبابها العميقة والبعيدة، ويقول المؤلف، لكن لم يكن هناك من يتصوّر أن عملية الاغتيال تلك ستكون سببا في التغيّر الذي عرفه العالم.
الكتاب: الطارئ في التاريخ
تأليف: دومينيك فانير
الناشر: بيير غيوم دو رو باريس 2012
الصفحات: 268 صفحة
القطع: المتوسط
Lصimprévu dans lصhistoire
Dominique Vanner
Pierre Guillaume De Roux - Paris- 2012
268 .p
