يرصد كتاب "يوسف مراد ..فيلسوف"، لمؤلفه الدكتور مراد وهبة، طبيعة مفهوم ورؤية مراد حول الفلسفة، والتي يرى انها "تفكير منظم، يحاول التأليف بين جميع العلوم، وتوحيد جميع المعلومات، مهما اختلفت وتعدّدت، في نظرة شاملة". ومعنى هذا التعريف أن الفلسفة هي وحدة المعرفة، ومن ثم ليس ثمة تفرقة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية؛ والسؤال الذي يطرحه الدكتور وهبة هو:

"ما المنهج الذي يحقق وحدة المعرفة؟". ويجيب عن ذلك :" شاركت عوامل ذاتية وموضوعية في تحديد هذا المنهج، العوامل الذاتية مردودة إلى الخبرة الذاتية، فكان يوسف مراد كلما أراد أن يحدد اتجاهًا معينًا في حياته، واجه صعوبات تحول دون إتمامه، فكان يحوّل الصعوبة إلى وسيلة للتقدم في اتجاه جديد، فارتأى أن لب الحياة ليس هو الاستقرار، بل الكفاح الذي يقوم بين المتناقضات.

ولكن المتناقضات تنطوي على أوجه اتفاق، ومن هنا يتحقق الانسجام الذي يتم بفضل التناقض وعلى الرغم منه. والجديد في هذا الكتاب ـ كما يوضح مراد وهبة ـ هو المنهج التكاملي، الذي يقدّمه يوسف مراد كبديل عن منهجين من مناهج علم النفس في تفسير السلوك الإنساني؛ منهج يعتمد على التفسير التكويني.

وذلك بأن يربط بين الماضي والحاضر، وعيبه أنه يربط المعلومات بالعلل فيجرد الحياة الإنسانية من الحرية. وكذلك منهج آخر يستند إلى التفكير الشبكي الذي يتناول مظاهر السلوك الإنساني كما تبدو في اللحظة الراهنة، وعيب هذا المنهج أنه يعزل الإنسان عن ماضيه.

وأما المنهج التكاملي فهو يضيف المستقبل إلى الماضي، استنادًا إلى حقيقة أن لكل كائن غاية يريد أن يحققها، وهو لن يحققها إلا في المستقبل. وتحديد الغاية مرهون بدراسة عوامل التكامل في المجالات البيولوجية والنفسية والاجتماعية؛ كما أن التكامل مكفول لكل مجال على حدة ولجميع المجالات الثلاثة فيما بينها.

وأحد الموضوعات التي يتناولها يوسف مراد، في الكتاب، يأتي تحت عنوان "مقومات الشخصية"، وفي هذا السياق، يقول إن لموضوع الشخصية، ناحيتين: ناحية داخلية هي الشعور بالشخصية؛ أي الشعور بالأنا، وناحية خارجية هي ما يميز كل شخص عن غيره؛ أي مجموعة صفاته الخَلقيّة والخُلُقية؛ ودراسة الخُلق ترمي إلى معرفة الصفات الفردية؛ أي الصفات المميزة لفرد ما.

ويبين المؤلف أنه، وبلا شك، في أنه يوجد تفاوت بين الأشخاص من حيث كيفية استجابتهم للمؤثرات الخارجية من مواقف وظروف وطوارئ، ولكن هناك عاملاً مهمًا من شأنه أن يخفف من الاختلافات الفردية، وأن يوحّد بين أفراد مجتمع من المجتمعات؛ هذا العامل الموحد هو المعرفة، أو بعبارة أخرى التراث الاجتماعي العلمي والثقافي والأخلاقي. موضحًا أن المعرفة تميل إلى أن تكون واحدة بين الأفراد والوسائل التي يتخذها الأفراد لتمثيل هذه المعرفة وتؤدي إلى نتائج حول مستوى عادي ينظر إليه كأنه المستوى السنوي.

ويشير مراد إلى أن المنهج التكويني لا يفيد فقط في دراسة الخُلق دراسة موضوعية، بل هو ضروري في دراسة الشعور بالشخصية؛ أي الشعور بالأنا، دراسة موضوعية أيضًا.

ويوضح المؤلف انه، وتحت عنوان "الاتجاهات الراهنة في الفن المعاصر"، وهو مقال منشور عام 1959 في مجلة "حياتك"، أكد مراد أن الفن قام بدور خطير في حياة الإنسانية، منذ أن كان جانبًا مهمًا من نشاط الإنسان ساكن الكهوف، عندما كان يمزج نشاطاته في الرسم والتلوين بنشاطه السحري؛ لدفع الأخطار الأرضية والسماوية التي كانت تهدّده وتقلقه، ولتحقيق شيء من الاطمئنان، إزاء القوى الغاشمة التي لم يكن بعد قد تفهّم كنهها.

ثم لم يلبث الإنسان طويلاً، حتى استشعر بلذة تشكيل الصلصال بعد تليينه بالماء، وبلذة رسم أشكال الحيوانات والإنسان وتلوينها بما كان يجده من ألوان ترابية؛ وكلما زاد قسطه من الاطمئنان والأمان توارت الأغراض السحرية لتفسح المجال للذة الفنية التي يبعثها إنشاء الأشكال الجديدة، غير أن هذا الجانب الغيبي لم ينعدم قط وظل يحيط كالهالة بالعمل الفني، فظل الفن في خدمة الدين، وخاصةً في الحضارات القديمة والعصور الوسطى، ثم تعدّدت أغراضه فأخذ جانبًا كبيرًا منه يلبي طلبات الطبقات الراقية صاحبة النفوذ والمال.

وأما السمة السائدة للفن في عصرنا هذا فهي تحرره التدريجي ومطالبته بشكل من الاستقلال الذاتي، فلم يعد خاضعًا في مجموعه للدين، أو لأي نوع من الأرستقراطية، بل أصبح نشاطًا قائمًا بذاته إلى حدٍ بعيد؛ نشاطًا يرمي إلى التعبير عن جوهر الإنسان، من دون الانفصال طبعًا عن المحيط الاجتماعي، ولكنه من ثنايا السياق الاجتماعي لا ينفك يؤكد ذاتيته واستقلاله.

كما يورد مراد وهبة مشروع كتاب لم يكتمل للراحل يوسف مراد بعنوان "العبقرية والجنون"، يؤكد فيه بشكل قاطع على وجود علاقة بين العبقرية والجنون، علاقة معقدة ومتعددة الوجوه، ليست علاقة تطابق وتوحيد، ليست علاقة مطلقة بين العلة والمعلول.

كما انه، وفي ضوء هذه النظرة، يؤكد د. يوسف مراد، أن العبقرية تتم بفضل الجنون وعلى الرغم منه. ولا غرابة في أن آلاف الخيوط التي تكوّن صورة العبقرية قد يتشابك بعضها مع بعض. الخيوط التي ترسم ملامح المجنون، فليست الظلال مجرد فراغات صامتة بل هي تؤدي وظيفة رئيسية في بعث الحياة والحركة، إذ إنها تزيد الأضواء ضياءً والأنوار إشعاعًا وبريقًا.

 

 

 

 

الكتاب: يوسف مراد فيلسوفًا

تأليف: مراد وهبة

الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 2012

الصفحات: 342 صفحة

القطع: المتوسط