من المعروف أن العاصمة الإيطالية روما، كانت لعدة عقود، بمثابة بؤرة إشعاع بالنسبة للعالم المسيحي كله. وكان قد أطلق على مدينة موسكو الروسية في مطلع القرن السادس عشر، تسمية:

"روما الثالثة". وكان الراهب فيلوناي وراء تلك التسمية. وفي بداية سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي: العشرين، كان مثقفو العالم وفنانوه يرون في موسكو، مركز إشعاع كوني جوهري، ولكنه دنيوي وليس عقائديا. الأستاذة في جامعة يال الأميركية، كاترينا كلارك، تقدّم كتابا تحت عنوان: "روما الرابعة". وهي تشرح فيه كيف أن الموظفين والمثقفين السوفييت، أرادوا تقديم عاصمتهم على أنها المركز الكوني لفكر جديد هو ليس أقل من منارة بالنسبة للعالم كله. وأما أدواتهم لبلوغ ذلك، فقد كمنت أساسا في محاولة كسب مثقفي اليسار وجميع أولئك المناهضين للفاشية، في جميع أنحاء المعمورة.

الفترة التي تحددها المؤلفة لاحتلال موسكو، خلالها، مكانة "روما الرابعة"، تتمثل في: ما بين عامي 1931 و1941. وهذا ما يدل عليه عنوان الكتاب الفرعي بـ"الستالينية والنزعة الكونية ـ الكوسموبوليتية ـ وتطوّر الثقافة السوفييتية خلال فترة 1931-1941".

وبهذا المعنى، تقدّم المؤلفة نوعا من التاريخ الثقافي للمدينة الروسية الأولى، خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. هذا مع الإشارة الى أن تلك الفترة هي بالتحديد تلك التي عرفت أكبر عمليات التصفية التي قام بها الديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين ضد معارضيه.

وترى المؤلفة أنه يمكن بالفعل اعتبار عام 1935 بمثابة المكانة الوسطى لتحوّل محدد جرى خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، وحلّت فيه المشاعر الروسية ذات المرجعية القومية المتزمتة والمفاهيم الستالينية (الرافضة للآخر)، محلّ الأحلام الثورية للأممية العمالية التي سادت خلال السنوات الأولى التي تلت انتصار الثورة البلشفية عام 1917.

وفي كل الحالات إنها تقدّم في هذا الكتاب صورة أقل قتامة وسوادا لسنوات الثلاثينات في العهد الستاليني. بل لا تتردد في القول ان موسكو كانت خلال تلك السنوات، مدينة تنويرية، حيث امتزج الفن والسياسة في مجالات الأدب والسينما والمسرح. وبهذا المعنى أيضا، كانت العاصمة السوفييتية، آنذاك، تستحق، حسب رأيها، وبجدارة، لقب "وريثة روما"، في فترة إشعاعها الكوني.

وبالتوازي مع ذلك، تؤكد المؤلفة أن تلك الفترة عرفت استيراد العديد من الأعمال الأدبية والسينمائية الغربية. كما أنه جرى خلال القسم الأعظم من عقد ثلاثينات القرن الماضي، تبادل للآراء والأفكار حول المسرح والسينما والأدب والصحافة والهندسة المعمارية، وذلك إلى درجة تتجاوز كثيرا بغناها وكثافتها، ما يمكن أن يخطر على البال.

وتحاول المؤلفة، بالاعتماد على سلسلة من الحجج والبراهين، تقديم صورة عن تطور الثقافة السوفييتية، والأصداء الواسعة التي عرفتها في القارة الأوروبية خاصّة، والوصول إلى نتيجة مفادها أن الحقبة الستالينية، سمحت بتكوين نوع من النزعة الكونية يونيفرسال- المعدّلة التي كان الاتحاد السوفييتي مركزها. وكانت مدينة موسكو بؤرة إشعاعها، باعتبارها مركز الاتحاد السوفييتي السابق.

ومن أجل التأكيد على المكانة المركزية التي شغلتها موسكو: روما الرابعة، تقدم كاترينا كلارك، توصيفا لنقاط تميّز موسكو خلال ثلاثينات القرن الماضي، من شوارع وأبنية رائعة الهندسة ومهرجانات، تدل بمجملها على حقبة لا يزال المواطنون الروس من سكان موسكو، يتذكرون قمعها، مع ازدهار النزعة القومية الروسية المتزمّتة، والحقبة التي لم يكن يحقّ فيها للسوفييت، الذهاب إلى خارج بلادهم.

لكن، وبالمقابل، تعرّف هؤلاء على وجود جيل من الروّاد الروس. وهذا بالتحديد ما تشرحه المؤلفة، على مدى الفصول التسعة التي يتألف منها الكتاب، والتي تستعرض فيها نظريتها المركزية القائلة، ان ذلك العقد الذي شهد الاستبداد الستاليني والرعب الأكبر، كان أيضا، نقطة الذروة، بالنسبة للنزعة الكونية الكوسموبوليتية- السوفييتية. إن هذا العمل يقدم رؤية جديدة للتاريخ الثقافي لروسيا الستالينية.

رؤية مغايرة لكل ما كان سائدا، في ظل وجود ما سُمي بـ"الستار الحديدي"، الذي كان يفصل أوروبا الشرقية عن نظيرتها الغربية والغرب عموما. والتأكيد على أنه كان هناك تداخل كبير بين المفكرين والأفكار في روسيا والغرب، خلال سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي.

 

 

 

 

 

الكتاب: موسكو روما الرابعة

تأليف: كاترينا كلارك

الناشر: جامعة هارفارد 2011

الصفحات: 432 صفحة

القطع: المتوسط

 

 

 

Moscow, the fourth Rome

Katerina Clark

Harvard University Press- 2011

432 . p