عمل المؤرخ الفرنسي جيرار نويل، لمدة سنوات في مجلس إدارة "شؤون الهجرة"، ثم استقال منها في عام 2007، احتجاجا على إنشاء وزارة فرنسية جديدة، باسم "وزارة الهوية الوطنية". وتحددت مهمة هذه الوزارة، بكيفية المحافظة على صفاء الهوية الوطنية الفرنسية.

وهذا يعني، بدقة، عدم السماح للمهاجرين، وخاصة للسود والمسلمين، المساس بالهوية الوطنية الفرنسية. وإثر استقالته تحوّل إلى الاهتمام بتاريخ المسرح، والذي كان اصلا، الموضوع الرئيسي لدراسته. وفي مثل هذا السياق، اهتم بحياة المهرّج شوكولا، أو "المهرّج الأسود" وقدّمها للمسرح ثم في كتاب يحمل عنوان: "شوكولا، مهرّج أسود". ويروي فيه، التاريخ المنسي لأول فنان أسود، عرفته خشبة المسارح في فرنسا، كما يقول العنوان الفرعي للكتاب.

وشوكولا، من مواليد كوبا، واسمه الحقيقي رافاييل. وصل إلى باريس في عام 1886. وغدا شهيرا، عبر الصفعات التي تلقاها من فوتيت المهرّج ذي البشرة البيضاء. وكان شوكولا وفوتيت، قد أصبحا الثنائي الأكثر شهرة بين المهرجين في فرنسا، خلال فترة نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أو "الفترة الجميلة"، كما يطلقون عليها. واخترعا معا "كوميديا المهرّجين" التي تدور حول شخصيتين: المهرج الأبيض، المهرّج الأسود.

المشاهد المسرحية التي قدّمها المهرّجان بطريقة هزلية كوميدية- ساخرة، جسّدت طبيعة العلاقات بين الاثنين، وظهرت على أنها علاقات سيطرة واضحة، من الأبيض فوتيت، على الأسود شوكولا. وهاتان الشخصيتان، أصبحتا مقرّبتين جدا من الفنانين الذين كانوا يعيشون آنذاك، في حي مونمارتر الشهير المرتفع، في وسط باريس. وكان الرسام الكبير تولوز- لوتريك، قد خلّدهما في إحدى لوحاته، كما كان المهرّجان في طليعة الممثلين الذين عملوا في مجال السينما الصامتة.

المهرّج الأسود شوكولا، لم يكن سوى أحد العبيد السود الذين كانوا يعيشون في الجزيرة الكوبية. وقرر الهرب منها الى أوروبا، القارة القديمة ذات الحضارة المتقدمة، فجعل من باريس وجهته ومقصده، على اعتبار أنها "مدينة النور"، كما يطلقون عليها. وفي العاصمة الفرنسية، أثار اهتماما كبيرا به لدى محبّي المسرح، ليكون، أول فنان أسود يحظى بمثل ذلك الترحيب الشعبي، كما يقول المؤلف.

سيرة حياة شوكولا يقدمها المؤلف في أربعة فصول، يحمل الأول منها عنوان: "أنا حي وأقدّم عروضا على المسرح"، ويتحدث فيه عن رحلته من هافانا إلى بيلباو، محطته الأولى. كما يصف المؤلف الرحلة، بأنها كانت ذهابا من دون إياب. ثم كان مباشرة اكتشاف باريس، حيث استطاع شوكولا أن يصبح مؤسسة وطنية في الجمهورية الفرنسية.

وفي الفصل الثاني، والذي يحمل عنوان : "يتلقى الصفعات لكن بسعادة"، يتعرّض المؤلف إلى الخطوات الأولى على المسرح، للثنائي شوكولا وفوتيت. ويحمل الفصل الثالث عنوان: "عندما لا يثير المهرّج الضحك". وذلك مع إقحام السياسة في المسألة العنصرية. وتحت عنوان: "الدفن حيا"، يتحدث المؤلف في الفصل الرابع والأخير، عن :"معركة رافاييل"،"زمن الذكريات"، "أشكال الاستخدام الجديدة للمهرّج الأسود".

واشتهر شوكولا في فرنسا، كأحد المعالم الوطنية الفرنسية. ولكن اعتبارا من القضية المعروفة باسم قضية دريفوس، أي الضابط الفرنسي الذي اتهموه بالعمالة مع الألمان، وُضع حد لنجاح المهرّج. ذلك أن المقولات العنصرية، التي كان يستخدمها في خطابه غدت مصدرا للإزعاج. ووجد شوكولا نفسه، رغم موهبته الكبيرة التي اعترف بها الجميع، معزولا، ومستبعدا من المسرح. وتوفي فقيرا بائسا.

يدرس مؤلف الكتاب، من خلال شخصية شوكولا، تاريخ العبودية والعلاقات العنصرية بين البيض والسود. وكذلك يبحث في ماهية المصير الذي آل إليه أولئك القلّة ممن كانوا قد تحرروا من العبودية، حيث لم يتم الاعتراف إلا بعدد قليل منهم.

وهكذا مثلا جرى دفن شوكولا في مقبرة أحد أحياء المهاجرين السود، ولم تتم حتى اللحظة الراهنة، الإشارة إليه في أي كتاب عن السيرك. وأما المهرّج الآخر، الأبيض، فوتيت فإنه مدفون في مقبرة "بير لاشيز"، التي تضم رفات أكبر أدباء وفناني فرنسا. ويجد ذكره في جميع الكتب التي تهتم بعالم المسرح والسيرك.

حاول المؤلف، كما يقول، أن يعيد إحياء ذكرى المبدع الذي نسيه التاريخ. وهو يقوم من خلال ذلك، بالتأريخ للحقبة التي عاش فيه شوكولا وسيّده فوتيت. إن المؤلف يحاول قول: ما لم يقله الآخرون. أو ما طمسوه عن قصد. وكذلك التأريخ أيضا للسيرك الذي كان بمثابة الصناعة الأولى في عالم تمضية أوقات الفراغ، أو الصناعة الوليدة، كما يتم توصيفها.

الصحافة المكتوبة، وحدها كانت تضع أخبار شوكولا على صفحاتها الأولى، مع ما كان يثير ذلك من نقاشات وأحكام مسبقة. ولم يكن أقل تلك الأحكام المسبقة تكرارا، القول انه من الصعب جدا على عبد، أن يتغيّر، ولن يكون شيئا آخر غير العبد.

ويحدد المؤلف القول ان تعبير العنصرية ظهر في تلك الحقبة. ويكتب: "العنصرية تعني بالتعبير الدقيق للكلمة، جعل مفهوم سياسي ما، يكتسي بالأحكام المسبقة. وهي تظهر عندما يشار إلى الأجنبي بالبنان، مع تحميله مسؤولية مآسي الشعب. وذلك من قبل أولئك الذين يريدون الاحتلال، أو المحافظة على السلطة".

أمضى شوكولا، الفترة الأخيرة من حياته، يناضل ضد "النسيان المبكّر". وكانت صحيفة "الزمان- لوتومب"، قد أعلنت عام 1909 وفاته خطأ، فكتب لها: "أرجوكم الإعلان أنني حي. وأشارك كل مساء، في السيرك الجديد. ويمكنكم الإشارة إلى أنني وُلدت أسود اللون كذلك".

 

 

الكتاب: شوكولا مهرّج أسود

تأليف: جيرار نوارييل

الناشر: بايار باريس 2012

الصفحات: 320 صفحة

القطع : المتوسط

 

 

Chocolat, clown nègre

Gérard Noiriel

Bayard - Paris- 2012

320 .p