قدّم الفيلسوف والكاتب الفرنسي المتخصص بالشأن الصيني، فرانسوا جوليان، سلسلة من الأبحاث، قارب فيها بين الفكر الصيني والفلسفة الأوروبية. وهو يعود في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان: "الولوج إلى فكر"، يعود إلى الموضوع نفسه، من خلال محاولة قراءة الفكر الصيني من داخله، وعبر الأدوات التي عبّر فيها عن مكنوناته.
ويسأل المؤلف بداية: "ماذا يعني ولوج فكر؟ ". ويضيف سؤالًا آخر: "من لا يتمنّى مثلًا، ولوج عالم فكر ما، بعيداً عن فكره الخاص، مثل الفكر الصيني؟ والتنبيه مباشرة قبل الشروع بأية إجابة، إلى أنه لا يمكن الدخول إلى فكر محدد، عبر محاولة اختصاره أو تقديم سريع لمفاهيمه أو تحديد مدارسه الفكرية، ولا حتى عبر تقديم تاريخه.
ويشير المؤلف، إلى ضآلة المعارف التي يمتلكها المثقفون الغربيون عن الفكر الصيني، وإلى الصعوبات الكبيرة التي يواجهونها عندما يحاولون سبر أغواره. وهذا في الوقت الذي أصبح فيه الصينيون ينتشرون في كل مكان بالغرب. كما يشير إلى العديد من الملاحظات العابرة، المدللة على سطحية فهم دلالات التعابير الصينية.
وهكذا مثلاً تحمل المخازن التجارية والمطاعم الصينية في الحي اللاتيني بباريس، وغيره من أحياء العاصمة الفرنسية، عبارات مثل: "الجديد المزدهر"، "في قمة التفتح". وذلك مع ترجمة بالفرنسية، مفادها: "لذائذ آسيا" أو "المأكولات اللذيذة السريعة".
وعن مثل هذه الحالة، يكتب المؤلف: "إن الآفاق التي ترسمها اللغتان أي الصينية والفرنسية - لا تتواصل فيما بينها. ذلك أنه هناك دلالتان، إحداهما من الداخل والأخرى من الخارج. وكل منهما تتجاهل الأخرى".
وما يؤكده المؤلف، هو أن الأمر لا يتعلق بمجرّد أمور سطحية عابرة، ولكن بسوء تفاهم عميق جداً، وهو ذو بعد عالمي. وذلك أن الدلالة البليغة لمثل هذا الغياب من التواصل، تكمن في نوع من الانغلاق على الذات، على خلفية نزعة للدعوة إلى نمطية واحدة في الفكر والسلوك، على المستوى العالمي. وهذا طبعاً، بناءً على غياب التواصل، ويؤكد المؤلف أن الفلسفة لا تسمح بولوج أعماق الفكر الصيني، كما لا تسمح بذلك دراسات العقائد والأساطير.
وفي كل الحالات، يشرح فرانسوا جوليان، أن هناك صعوبة كبيرة أمام الإنسان في سعيه للتحرر من ما يتأسس عليه فكره، وبالتالي قد يكون من المستحيل الولوج حقيقة إلى فكر ما، قادم من أماكن أخرى وحضارات أخرى. وتزداد مثل هذه الصعوبة، بسبب واقع أن لكل لغة منطقها في التعبير وفي التفكير. وبالتالي قد لا يكون ممكناً استيعاب مجمل الذهنية التي يتحلّى بها الآخرون، والتي تحكم طريقتهم في التفكير. وفي النهج ذاته من التحليل، يرى المؤلف أن أية ترجمة تحمل، إلى هذه الدرجة أو تلك، نوعاً من "إسقاط البنى" الفكرية لمن يقوم بها، على بنى الموضوع المترجم.
وتتمثل إحدى الأفكار التي تتردد بأشكال مختلفة في هذا الكتاب، بالقول ان أي حوار جبري وحقيقي، بين الثقافات والشعوب، يستدعي أن تؤخذ بالاعتبار الصعوبات الحقيقية أمام ولوج فكر الآخر.
وتجري الإشارة إلى أن الغربيين يتمتعون بنوع في المبالغة بتمجيد الذات لديهم، عندما يزعمون أنهم يستطيعون الولوج إلى مكامن ذهن الآخرين. كما يتردد في تقليد غربي قديم، يعطي لنفسه تسمية النزعة الكونية - يونيفرسال.
والنتيجة الأساسية التي يخرج بها المؤلف من تحليلاته، هو أن الثقافة الغربية منغلقة على ذاتها، وينبغي تحريرها من القوالب التي سجنت نفسها فيها، على خلفية مزاعم الريادة. والمطلوب هو ليس أقل من الخروج من هذه الآراء، التي يتم التعامل معها كمسلمات واضحة، وفتح الأبواب أمام فكر الآخرين.
ولكن تبقى المشكلة الرئيسية، أمام مثل هذا المسعى، تتمثل في إيجاد الطريق إلى ذلك، إذ إنه لا يمكن ولوج فكر كما يتم الدخول إلى طاحونة. ويتم تحديد أحد أهم سبل الولوج إلى فكر ما، مثل الانضمام إلى حزب سياسي.
وأما الأداة الأساسية لولوج فكر ما، فيحددها المؤلف في اللغة قبل كل شيء. ذلك أنها هي التي توفّر إمكانية التعرّف على العمليات الذهنية الغريبة، عن فكر من لا يتحدث بها، أي التعرف على عالم مختلف.
الكتاب: الولوج إلى فكر
تأليف: فرانسوا جوليان
الناشر: غاليمار - باريس- 2012
الصفحات: 208 صفحات
القطع: المتوسط
Entrer dans une pensée
François Julien
Gallimard - Paris- 2012
208.p
