يستهل كتاب " في مديح الثورة.. نهر ضد المستنقع"، لمؤلفه خالد الحروب، نقاشه قضية الثورات العربية: بين أفقها وجدواها وفاعليتها المستقبلية، بسؤال محوري، مفاده: "إلى أين تقودنا الثورات العربية؟". إذ يوضح الحروب في أبحاثة المنصبة على تحليل واستقراء تفاصيل هذه المسألة وجوهرها، مجموعة من النقاط المتصلة بها.
مشيرا الى حقيقة ان هذا السؤال، بابعاده وافرازاته كافة، ليس فقط محط وموضوع تساؤل للنخبة في المجتمع، بل سؤال للعامة ايضا، فرغم حماسة البعض للثورات العربية، تبقى الخشية من بلوغ مصير أسوأ مما كان، قائمة وبارزة بقوة، ولكن هذا البعض يصر وبثبات وقناعة، على المضي في مواقفه المؤيدة للثورات العربية.
ويلفت الحروب، هنا، الى انه واحد من هؤلاء، وهو يرى فيها بداية مخاض يمهد لاعلان الولادة الجديدة لدول غيبتها الدكتاتوريات، وأنظمة القمع والتخلف عقودا عديدة. ويتجاوز المؤلف المحاذير والمخاوف والمخاطر المشروعة في غياب الضمانات المستقبلية، التي قد تدفع بالاصوليين المتربصين، للسيطرة على مجتمعات ما بعد الثورة واقحامها في عصور مظلمة، أو ان تشرع أبواب هذه الدول للتدخلات الاجنبية، طمعا باستغلال ثروات تلك البلاد، بطرق مختلفة .
ويميل الحروب، رغم ذلك، الى تبني الثورات الحاصلة والاشادة باهميتها، وكذلك يثني على تيارها الجارف بقوة. فالمفاضلة بين النهر والمستنقع الآسن، على سبيل الكناية، يحتم الانحياز الى النهر، على حد تعبيره. ويختار المؤلف أن يؤكد في هذا السياق، ان ما بعد الثورات، تمثل مرحلة لابد من أن تمر بها مجتمعاتنا، كما يقول الكاتب، ذلك حتى يتم الانتقال الى مرحلة النضج والتسييس والاجتماع الصحي.
وهذا لان الخوف من القيام بهذه النقلة النوعية، يعني مراوحة شعوب هذه الدول في المستنقع الآسن الى الابد. ولذلك يقول المؤلف، ان الانحياز للثورات العربية، ورغم كل ما فيها من اختلالات ومغامرات ومخاطرات،هو انحياز لافق المستقبل، وانحياز للحرية والكرامة، ضد الاستبداد والذل المستديم.
وهو يرى في هذا الشأن، أن الانتفاضات العربية أعادت ثقة العرب بأنفسهم، أفرادا وشعوبا، ونقضت مقولة الاستثناء العربي تلك التي تقوم على اعتبار، ان العرب، تاريخيا وثقافيا ودينيا وراهنيا، لا يتواءمون جوهريا مع أفكار الحرية والديمقراطية والتعددية والفكرية والسياسية.
وينتقد الحروب طروحات الانظمة الرجعية، لتبرر استمراريتها في السلطة . فالشعوب العربية لم تعد تنطلي عليها تلك المقولات، والتي توهم الناس ان الاصلاح والتحديث وعصرنة النظام وفرص التغيير، قضايا مجمدة حاليا، او أن أوانها لم يحن بعد، وحجة الانظمة هي نفسها، فالتهديد الاسرائيلي، كما تدعي تلك الانظمة، لا يتيح ترف التفكير بالخيارات الديمقراطية، وكل شيئ مؤجل، بانتظار نتائج المواجهة، وجلاء غبارها.
ويخلص الحروب إلى نتيجة مؤداها، أن الثورات العربية، من تونس الى الجزائر، والى اليمن فليبيا وسوريا، وأيضا على الرغم من شدتها وتفاعلها الكبيرين، وكذا غموض مراحلها والفوضى التي اشاعتها والمآسي التي افرزتها، ليشت إلا المرحلة الاولى للانتقال التاريخي للعرب، من استقرار الاستبداد الى استقرار الحرية، وهو انتقال سيرتب كلفة باهظة، ولكنه المطهر أو المعمودية التي لا بد منهما للعبور الى دولة الحرية والسيادة والقانون، دولة العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
وفي قراءته لمجريات الثورة في سوريا، يستحضر الباحث رمزية الشعارات المرفوعة. فهو يعتبر ان ما جاء في احدى اليافطات، تعبيرا عبقريا عن رعب النظام السوري وجلاديه. وأن من صاغ الشعار القائل "لم تقتل فينا الا الخوف "، في رد المتظاهرين على تهديدات النظام السوري ،يستحق أحد أوسمة الابداع، مؤكدا أن استنفار النظام لشتى وسائل القمع والتهديد والتنكيل، أمر لن يزيد الشعب الا اصرارا على التحدي والمضي قدما في المواجهة، مهما كانت الاكلاف .
ويصف خالد الحروب، الثورة في سوريا، بأنها أيقونة ثورات العرب، وأصعبها طريقا وأكثرها تحديات، وأشدها جسارة وكسرا لكل قيود الخوف. وذلك طبعا من دون أن يتنكر لخصوصية سائر الثورات، والتي لم تشهد شوارعها، ما يشبه الحالة الدموية التي نشرها وسيدها النظام السوري، في البلاد، مغتذيا في اندفاعته تلك، بغطرسته وبطشه واجرامه.
ويطلق العنان لمخيلته، فيسترجع بعض مآثر هذا النظام. وتطول قائمة الارتكابات التي حولت سوريا الى سجن كبير، يتراكم فيه عفن القمع وتوحش الاستبداد والخوف والقهر والذل.
ويذهب المؤلف بعيدا في تأييده المطلق للثورات العربية، وذلك مهما كانت النتائج، حتى ولو كان اسواها، برأيه، وصول الاسلاميين الى السلطة.
ويلفت الحروب، في خلاصات بحثه، إلى تمنيه على الاسلاميين أن يتبنوا، وبوعي وادراك، ومن دون تردد، منهج المشاركة في الحكم، لا السيطرة عليه. وهذا يتطلب برأيه، تشكيل حكومات ائتلافية وتوافقية، حتى لا تقع تلك البلدان، في استبداد "اسلاموي"، من نوع جديد، فتلبث في حال من الفوضى وعدم الاستقرار.
كما أن من مسؤولياتهم، لجم الاسلامويات المتطرفة، لاسيما التيارات السلفية، كما هي الحال المتصاعدة في مصر وتونس وليبيا، والتي يضيق صدرها بالتعددية والدمقرطة والرأي الآخر. ولأن المرحلة الانتقالية التي تمر بها بلدان ما بعد الثورات العربية قلقة، ويميزها الصراع الاغلبوي الاقلوي، في ظل طروحات الجماعات السلفية، التي تريد أن تؤسس لبلدان وسلطات قروسطية، حسب رأيه، فان شكل الدولة والدستور القادمين، مدني أم ديني، هو الامر الذي سيمثل " أم المعارك" للمرحلة القادمة.
الكتاب: في مديح الثورة.. النهر ضد المستنقع
تأليف: خالد الحروب
الناشر : دار الساقي بيروت- 2012
الصفحات: 237 صفحة
القطع: المتوسط
